1. ذكريات -26 دت

      الرحلة إلى أبو ظبي -1

       ماذا يعني لي نوفمبر؟

      الرحلة إلى أبو ظبي لم تكن أسهل عن تلك التي كانت إلى دبي، إنما الفرق كنت بصحبة أخي وابن عمي وأخيه ومعهم ثالث لا أتذكره لعله ابن خالتهم، لأننا أول ما وصلنا العين بإمارة أبوظبي للدراسة، نزلنا مع ابن خالتهم الثاني المقيم هناك هو والمرحوم أخوه.

       منطقة الصاروج التي سكنا فيها لا تختلف عن قرى عمان في الداخل، بها ضواحي نخيل وجدران من طين، ومع ابن خالتهم هذا أيضاً كان يقيم المعلم وابنه ـ رحمهما الله ـ إنه المعلم الذي ختمت على يده القرآن،ربما كانا يشاركانهما السكن والذي هو عبارة عن غرفة عمال من العشوائيات، وكنا ننام في العراء، و نغتسل من شريعة الفلج و نذهب للغائط تحت جدران الضواحي، كسائر العمال الوافدين، وكنت أرى عمال البلدية يأتون كل صباح لإزالة الأوساخ من تحت هذه الجدران، لا توجد حمامات، ولا حتى مصلى صغير بالرغم من وجود في المنطقة وافدين من العمال الأسيويين المسلمين، الذين في العادة يحرصون على إقامة مصلى عند تجمعاتهم، و الفلج الذي نغتسل منه نشيط الجريان، وساقيته واسعة.

      وبعد يومين أو ربما أقل من أسبوع انتقلنا ومعنا ابن خالتهم وأخيه لنقيم بمنطقة المعترض حيث يسكن عمي  (أبو رفاقي) و كان السكن عبارة عن غرفة صغيرة من طين، نطبخ فيها، ونأكل، وننام على أرضيتها الترابية، والاغتسال من الفلج الذي يروي ضواحي النخيل كالذي سبق ذكره وكان مجراه يبعد عنا مسكننا بحوالي خمسمائة متر تقريباً، كما كنا نصلي في المسجد الذي على ساقيته.

      في الحقيقة كدت أن أشعر بخيبة أمل وقلق، بالرغم من اقتناعي بأننا أكيد سننتقل إلى السكن الطلابي، وكنت أخفف من قلقي وأقول لنفسي لماذا الاستعجال؟ لم يتم حتى تسجيلنا في المدرسة بعد.

       مضت مدة ثلاثة أشهر، بعد أن دوامنا في مدارسنا و كنا نقطع كل صباح مسافة بين ثلاثة أو أربعة كيلو مترات من مقر إقامتنا حتى المدارس، وعندما نعود نبدأ بإعداد القهوة وتقشير البصل لمرقة الغداء التي عادة ما تكون من التونة، والعشاء خبز تنور (خبز عجمي) مع الشاي، هكذا استمر الحال ربما أكثر من ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر حتى أتت الموافقة من إدارة التربية للسكن الداخلي.

       وكان ما يضايقني هو استياء ذلك الشيبة الذي لا يستطيع أن يخفي (الله - يرحمه)، استيائه، شريك عمي في الغرفة، ربما بسبب وجودنا أنا وأخي.في الحقيقة كنت أرى بأنه محق، لأنه يشقى كل صباح يحمل أدواته(البتك والمسمار) لحفر الآبار التي يؤجر على حفرها، ولعل وجودنا أنا وأخي كان يضايقه بسبب مصاريف الأكل وتكاليف الإقامة.

       حياة العمانيين في الخليج كانت حياة عمالية لعمال كادحين، لا يترفعون عن الأعمال،إذ لم تكن تختلف حياتهم أبداً عن حياة العمالة الأسيوية عندنا في الوقت الحاضر، هذه حقيقة والصدق لا يزعل. العمانيون كانوا يشتغلون أي شغل في دول الخليج، هم وجيرانهم اليمنيون من أجل العيش الكريم،(مزارعون، عمال بناء،وسائقي سيارات)، إلا أن عدداً قليلاً جداً منهم ممن درسوا في الخليج كانوا يشتغلون في الوظائف المكتبية، هذا بالإضافة إلى العمانيين من سكان شرق أفريقيا الذين كان يشتغلون في البنوك والمستشفيات والأعمال التي تستخدم فيها اللغة الانجليزية في إمارة دبي، وحياة هؤلاء في الخارج كانت أرقى يقيمون في مساكن حديثة ويعيشون كالحياة التي نعيشها الآن في عمان، والسبب أن المنهج الدراسي الذي درسوه في أفريقيا قوي ومنافس للمنهج الانجليزي بالمدارس الهندية، وأنا حظيت بنفس التجربة قي بداية التحاقي بالمدرسة بمدينة  ممباسا، حيث درست بإحدى المدارس الهندية، وكان المعلم لا يتهاون مع الطلبة على الإطلاق.

      أنا لست متجنياً على أحد ولكن أحب أن أحكي الواقع بالرغم من مرارة الصدق وربما يعود هذا لطفولتي ونشأتي التي نُشئِّتُ عليها أنا وأخوتي على المثالية التي كانت أكثر من اللازم وأيضاً ثقتي بنفسي التي تولدت من جراء تحملي المسؤولية في سن مبكرة عندما التحق والدي بالجيش في منتصف الستينات من القرن الماضي بعد عودتنا من أفريقيا عندما رافقته في رحلته الثالثة.

       كنت دوماً أحلم بالمستقبل الذي أراه برؤيتي الخاصة، بعيداً عن المعتاد الذي كان سائداً في ذلك الوقت وكنت أتمنى الحداثة التي أرى قد تحقق البعض منها في عصرنا الحاضر في عمان. وربما البعض من أبناء عصري في ذلك الوقت وأيضاً أقاربي كانوا يرون سلوكي شاذاً نوعاً ما، ولا يدركون الحقيقة بسبب عدم تتبعهم وضيق إطلاعهم، أو ربما لقصر أفقهم و قلة المعرفة في بعض الأمور، وهذا طبيعي ليس بغريب ويوجد في كل المجتمعات كما نعرف... وكنت أرى المستقبل بمنظور مختلف وترقب و بصورة أكثر إشراقاً و استعجالاً مما ينبغي، وعندما حصلت على البعثة الدراسية إلى مصر في مطلع السبعينات كأن الحلم الذي رأيته قد تحقق، ولطالما كنت أحلم أن أسافر إلى بلدان راقية، ثقافياً واجتماعياً، ومعيشياً.

      أبو ظبي لم تكن هي وجهتي منذ البداية التي أرى فيها مستقبلي، لو كنت بقيت في دبي لكان الوضع ربما أفضل، حتى لو لم أحصل على إعانة من والدي، كانت الحياة هناك سهلة بمخالطة الناس قد تكون أفضل، أقصد العائلات العمانية، وكان الكل يتمنى أن أعيش معه، خاصة العجائز وجدت بعض العائلات التي تربطها صلة معرفة مع أجدادي وربما قد تكون صلة رحم من يدري...! العمانيون معظمهم أصهار وانساب وأقارب.

       مدينة العين كانت تشبه ولاية إبراء في الحاضر، أو ربما ولاية بدية، بها شارع واحد مزدوج بإنارة يمتد من حصن المربع إلى مدنية أبوظبي (بطول 150 كيلو متر)، خط واحد وفي وسط المدينة بهذا الشارع ثلاث دوارات واحد منها أمام المدرسة التي درست فيها "ثانوية زايد الكبير" لم تعد هذه المدرسة موجودة الآن ربما نقلت، وعلى جوانب هذا الشارع عمارات لا تتجاوز أدوارها عن دور واحد أو دورين بالكثير، والباعة من الوافدين الأسيويين، وعلى واجهات المحلات، ملابس و (برانيص و شنط) معلقة. كتجارة سوق روي. بخلاف دبي التي على شوارعها الرئيسة محلات من الزجاج،والباعة من مرتدي الجاكت ورطبة العنقcravat.

       بالرغم من توفر الدراسة المجانية والرعاية الصحية المدرسية، ووجبة الفطور التي توزع قبل الفسحة، والمصروف ألجيبي الذي نمنح إياه كل شهر، هذا بالإضافة إلى الإقامة المجانية والأكل، إلا إني لم اشعر بالراحة النفسية طيلة إقامتي هناك، لأسباب شخصية، ومنها نفسية، غابت تلك الثقافة والهندمةneatness ( الشياكة) التي تعودت عليها في دبي، عشت في مدينة العين كقول المثل: (إن كنت في حلتهم كن من ملتهم).خاصة بعد أن زاد عدد الطلبة العمانيين الصغار من بلدان الحدود، وانتقالنا إلى مبنى آخر ليصبح السكن كزريبة الأغنام، دون مراعاة لفروق السن.

       نقل بعضنا إلى مساكن مبنية من الخشب المضغوط الـ plywoodحيث كانت مقراً لشركة مقاولات قرب حصن المربع، أذكر كان مشرفو السكن أساتذة من الشام ومن بعدهم بحريني من مملكة البحرين.

       كان وقت الفراغ عندنا طويلاً، خاصة عند من ليس لديه ما يشغله بعد المدرسة.

      من الأنشطة الرياضية التي كانت تمارس من قبل الطلبة في السكن لعبة كرة الطائرة على ساحة رملية أمام مبنى السكن تلعب بشبكة ممزقة تم إيجادها بجهود ذاتية، والسكن كان مجرد "ثكنات " شبيهة بمعسكرات العمالة الأسيوية لا أكثر ولا أقل، خاصة في ذلك المكان مبنى "أرابيكون" وبعضنا أُسكِن في عمارة "غانم"على الشارع العام المؤدي إلى حصن المربع (مقر قيادة المنطقة الشرقية للشرطة) والتي تقع في آخر الشارع من جنوب العمارة.

       وفي الآخر نقل سكن الطلبة الوافدين كله إلى منطقة الجيمي،هناك كانت الطامة الكبرى، كانت الغرف صغيرة، لا تتجاوز مساحتها عن عشرين متراً مربعاً، مستخدمين أَسِرَّة من قوائم حديدية (من طابقين)غير مريحةومركبة علىقوائممن الحديد المخرم كتلك القوائم التي تستخدم في رفوف مستودعات الأدوات المعدنية، وعلى ظهر كل سرير الذي يحمل المرتبة لوح من الخشب المضغوط " plywood" والفراش بكاملة لا يتعدى عن ثلاث قطع (مرتبة من الأسفنج، ومخدة وشرشف - ملاية)، الغرفة شبيهة بمحل بيع الدواجن غير مكيفة، اختلاط بين الصغار والكبار، إليك أن تتخيل كمية الإضاءة التي تدخل الغرف، هذا ناهيك عن التهوية، وعندما يأتي فصل الصيف وتبدأ المذاكرة ومراجعة دروس الامتحانات يبدأ الطلبة؛ و ينتشرون في المساء على دوارات الطرق أو على المسطحات الخضراء التي تفصل مسارات الطرق وعلاوة على ذلك هناك لهيب رياح الصيف وما تحمله من ذرات الرمال "الطوز" التي تعصف الوجوه.

      مدينة العين في ذلك الوقت الذي كنا فيه، كانت متاجرها وشوارعها وبيئتها الرملية شبيهة بقرية "الحوية" بولاية بدية في عمان، وفي الأيام الأخيرة من تواجدي هناك بعد أن تغير الحكم في عمان بثلاث سنوات، كنت دائما سارح الذهن، وفي الحقيقة لم أكن مرتاحاً طيلة فترة دراستي في العين، حتى إني ندمت على انتقالي من دبي وكان هذا الانتقال بالنسبة لي كمن انتقل من مدينة إلى قرية، حيث في دبي الدراسة كانت أرقى والناس الذين تكفلوا برعايتي في دبي كانوا أرقى مع تحفظي على البعض منهم، كما إني كنت في دبي طالب مثقفاً.

       ماذا يعني لي نوفمبر:

      عندما دخلت السبلة في إبراء ذلك اليوم من عام سبعين بعد صلاة الظهر كالمعتاد، وجدت رسالة ضربت على الآلة الكاتبة في ورقة بيضاء رسمية (بسيف وخنجر)، تداول بين الحاضرين، تناقلها الأيدي من يد لأخرى، يبحثون عن من يستطيع قراءتها بوضوح وفهم فحواها للحاضرين، وكنت أنا من ضمن الذين أعطوا هذه الرسالة لقراءتها، لا أتذكر مصدرها، لكن أتذكر أخذت أكرر قراءة كل السطور فيها حتى استوعبت ما حوته للجميع، إنها البشرى بمقدم عهد جديد لعمان.أخذ الناس الذهول واعتلت الأصوات بين الحاضرين وانتابهم القلق، الكل كان يخمس  ويسدس، لا يدرون ماذا يخبئ لهم المستقبل، بعد ذلك العناء والشقاء والاغتراب عن بلدهم، وكيف ستكون الحياة الجديدة الآن بعد أن تبدل كل شيء، وكان هناك من يتساءل هل ستكون عمان مثل الدولة الفلانية في الخليج أو الدولة الفلانية في كذا وكذا؟ وهناك من الشباب ممن أخذ يتساءل ماذا سيفيده ما تعلمه من قراءة وكتابة؟ وكل كان يتخيل نوعية العمل الذي سيقبل عليه، أو سيجده في مسقط.

       كانت الرؤية في البداية غير واضحة للكل لعدم وجود الإعلام المسموع والمقروء وعندما بدأت الإذاعة بالبث، كان بثها مقصوراً في البداية على مسقط وبعض ضواحيها، ولم يكن هناك وجود نظام تشغيل يعتمد عليه الناس، وكان الناس يبحثون عن الأعمال بطرقها الخاصة بالذهاب ودق أبواب الشركات والمؤسسات الحكومية، ومنهم من بدأ يمل من الانتظار في مسقط، وعندما استخرج جواز سفره غادر إلى الخليج، ومنهم من وجد ضالته في الجيش والشرطة، وكانت هذه المؤسسات الحكومية الوحيدة التي استحوذت على العدد الأكبر من التوظيف بين المتعلمين أو غير المتعلمين، وبمرور الوقت وبظهور الجرائد المحلية (الوطن وعمان) في ذلك الوقت، والتلفاز فيما بعد ومع اتساع رقعة البث الإذاعي بدأ الناس يتراجعون عن الأعمال في الخليج, وأخذوا ينخرطون في الأعمال التي توفرت في عمان، خاصة ممن كان لديهم إلمام بالقراءة والكتابة، ففتحت لهم أبواب التعلم في المساء متمثلة في محو الأمية وتعليم الكبار.

       وتوالت الدورات والمنح الدراسية من الحكومة في مختلف المجالات الإدارية والتقنية والعسكرية والأمنية والإعلام إلى مختلف الدول العربية والأوروبية، وكانت الدولة تنفق لهذه الدورات بسخاء، ولم يكن أحد يتصور في عمان، بأنه في مدة قياسية قصيرة سيكون هناك من بين العمانيين مهندسون وأطباء ومدرسون وطيارون يحلون محل الوافدين وفي زمن أسرع من مثيلاتها في الدول المجاورة التي سبقتنا بكثير من الوقت والسبب كان يكمن في التخطيط السليم والإدارة الجيدة بما يعرف الإدارة بالأهداف.

       وما ساعدت عمان على تولي أبنائها إدارة بلادهم هي الخبرة التي اكتسبها هؤلاء العائدون من العمل في الخارج، على سبيل المثال إفريقيا التي خرجت كثيراً من المتعلمين من المدارس الأجنبية وممن لديهم مهارات فنية ولغوية في اللغة الانجليزية استوعبتهم البنوك التجارية والشركات المهنية ووزارة الصحة في مجال الطب والتمريض، وأيضاً الأعمال الفنية في وزارة الدفاع، وكان لهذا العدد أنقلل من تشغيل أو حال دون الاعتماد الكلي على العمالة الوافدة التي كانت في السابق متواجدة في هذه القطاعات.

       العمانيون القادمون من دول الخليج العربي من ذوي المستوى التعليمي المتدني والمتوسط وما فوق استوعبوا في الوظائف الإدارية بالمؤسسات الحكومية، ومن لم يكمل تعليمه التحق بمدارس تعليم الكبار حتى يرفع مستواه التعليمي أو ينهي دراسته الجامعية، ولم يقتصر التعليم على الذكور بل شمل الإناث، بالتوازي مع الذكور على حد سواء.

      1. عبد الله السناوي - شارك