-
-
ذكريات 17-2
(سيح العافية 6):-
الحياة العامة -2
الجداد
الناس في الماضي يعتمدون اعتماداً كلياً على المحاصيل الزراعية التي يزرعونها والمواشي التي يربونها، ولكل محصول موسم، فعلى سبيل المثال كان موسم شراء اللحوم في الأعياد، ولا يأكلوا الناس كل ما يذبحون فإن جزءاً كبيراً منه يخزن. ولعدم وجود البرادات كانت اللحوم تحفظ بالتمليح أو بالتجفيف؛ فتدوم لفترة. هذا بالإضافة على اعتمادهم على الأسماك المجففة في فصل الصيف.
أما المحاصيل الزراعية كالتمور التي تمثل الوجبة الرئيسة للعمانيين في الداخل، والقمح والشعير، ومعظم الفواكه فإن موسم حصادها هو موسم الصيف.
وموسم إنهاء حصاد التمر يسمى الجداد ـ يلفظ بفتح الجيم ـ ويعني أوان قطع ثمر النخيل إنه موسم قطع عذوق النخيل (مفردها عذق). ويقال "جد النخلة" أي أنهى اجتناء ثمارها بقطع عذوقها بما تحمله من بسر ورطب البلح ثم التمر.
وكما نعلم بأن ثمرة النخلة تمر بمراحل إلى أن تصل إلى مرحلة الجداد وهي المرحلة النهائية. و تبدأ بمرحلة الطلع وهي المرحلة التي يظهر فيها القب بداخل النبات ليكون في النهاية عذق النخلة الذي يحمل الرطب، ثم مرحلة النبات التي يتم فيها تنبيت الثمرة أي تلقيحها بنبات الفحل (بوضع ثمرة مماثلة من الذكر عليها)، ثم تأتي مرحلة "التحدير" وهي المرحلة التي يحنى فيها العذق ويثبت على زور النخلة (أعوادها)، ثم مرحلة "الخلال" وهي المرحلة التي توشب فيها الثمرة (تبرز) حيث لا تزال الثمرة فيها خضراء قبل أن تنقلب إلى الاصفرار أوالاحمرار وعندما يتغير اللون تسمى "البسر"، وحينما يبدأ طرفها بالسواد واللين (النضوج) تسمى رطب ثم يتمر البسر أي يصير تمرا. والرطب في الغالب نوعان أحمر وأصفر حسب الصنف، وكل صنف له اسم مثل:(النغال، و المدلوكي والزبد والهلالي والفرض و الخلاص و البرني و الخصاب و المبسلي ألخ...).
هناك أنواع كثيرة حسب كل منطقة، لا أتذكرها كلها ولكن تتوفر معلومات كثيرة عن النخلة والمحاصيل الأخرى في عمان بكتب الوزارة المعنية.
وقبل الجداد تأتي مرحلة "الرقاط" ـ تلفظ الراء لاماً ـ وهو اللَّقاط (بتشديد اللام وفتحها) ويعني كل ما يلقط من ثمار أو حصاد على الأرض وهو المرحلة التي تتساقط الثمار من النخلة من "خلال" و "بسر" و"رطب" وهو أيضاً المرحلة التي يتم فيها التقاط ما سقط وتقديمه علفاً لحيوانات البيت، ويمكن لأي شخص أن يذهب ليرقط الرقاط دون إذن من المالك طالما كان المال مفتوحا، وعادة ما يتم ذلك بعد صلاة الفجر حيث يقوم به الأطفال والنساء. وعادة ترى كثيراً من الفقراء ممن لديهم حيوانات يذهبون للرقاط فيعينهم ذلك في معيشتهم ويُؤْجَر صاحب المال.
ثم تأتي مرحلة "الخراف" (خرف الرطب و اجتناء الرطب) وتكون هذه المرحلة والمرحلة التي بعدها لصاحب المال، وعندما تبدأ بعض ثمار النخيل بالتربع، أي الانتهاء تأتي مرحلة الجداد التي يتم فيها قطع العذوق. يسمى النخيل الذي يؤكل رطبه في ذروة القيض بالخرائف.
في موسم الجداد يتعاون الجميع مع صاحب المال، تجتمع النسوة من حضر وبدو بعد طلوع الشمس في ضاحية صاحب المال، وتفرش الحصر والسميم ويتم تقريب السلال (القفر) وتجهز الحمير التي تنقل الغلال إلى البيت إذا كان جداد خرائف، أو إلى التركبة إذا كان جداد تبسيل.
وبعد إتمام جميع الترتيبات يطلع البيدار بحبل الطلوع النخلة ومعه حبل الوراد و عند وصوله الغلة، يقوم أولا بربط طرف حبل التوريد (الوراد) في جذع النخلة وتلفظ كلمة "ورّاد" (بشد الراء) ثم يرمي الطرف الآخر من الحبل إلى الأرض ليمسكه شخص بقرب الفراش، ويتم بواسطة هذا الحبل توريد العذق من فوق النخلة بعد قطعه إلى الأرض بزحلقته في الحبل بدلاً من رميه حتى لا يتناثر الغلال، وعند وصول العذق إلى ماسك الحبل فإنه يسلمه للنسوة لخرطه(لفصل البسر من العذق) إن كان للتبسيل أو يسلمه لصاحب الحمارة مباشرة كما هو لنقله إلى بيت صاحب المال.
وحبل الوراد حبل متين مصنوع من ليف النخيل، وعند تزحلق العذق في الحبل يصدر صوتاً ويسمى هذا الصوت بصوت الوراد، وعندما يسمع هذا الصوت من قبل الفقراء فإنهم يسيرون نحوه إلى أن يصلوا الضاحية للمشاركة لعل الله تعالى يجعل لهم فيه نصيباً.
في البيت يتم فصل التمر من البسر والرطب، ويغسل عن الغبار بعد تنقيته وعزل الشوائب عنه أي بإخراج الفاسد منه الذي يسمى "حشفاً" (تنطق الكلمة بسكون الشين)، ثم يكيس الحشف ويباع كغذاء للبقر إذ يخلط مع بقايا فتات القت (البرسيم) وسمك العومة (السردين المجفف)، ونوى التمر (الفلح) و يطبخ إلى أن ينهرس ويقدم طعاماً للبقر(يسمى مغبرة) من أجل إدرار الحليب.
أما التمر المنقى فيوضع في الشمس ليجف عنه الماء، ثم يكنز في أكياس من السعف تسمى "الجراب" وجمعها أجربة (تنطق بقلب الجيم ياء بلهجة أهل الشرقية).
وبهذه الطريقة يكون موسم القيظ (فصل الصيف) قد انتهى و يبدأ الناس في الاستعداد لفصل الشتاء، حيث يؤكل الرطب في فصل الصيف ويؤكل التمر في فصل الشتاء.
في السابق يعتبر التمر وجبة رئيسة للعمانيين يرافقهم في معظم الأقوات قبل وجبة الغداء وفي وجبة العشاء، و يؤكل التمر مصحوباً بالقهوة في الصباح ومع اللبن (الجمبة) مستخلص من لبن البقر في بقية الأوقات.
ومن أجود التمور التي كنا نقدمها للضيافة في فصل الشتاء الفرض والخلاص و المدلوكي وأبو نارنجة و البارني و الخنيزي. و منرطب فصل الصيف النغال و المدلوكي و الزبد و الهلالي و الخنيزي و الخلاص و الخصاب و هي تأتي تباعاً كثمارها في فصل الصيف.
تختلف أصناف الرطب من منطقة إلى أخرى في المسميات، والأنواع التي ذكرتها هي التي كنت أعرفها ولدينا العديد من نخيلها في ضواحينا.
وهكذا الجداد كما علمنا له طقوسه إذ ينتشر الناس في المزارع لمساعدة بعضهم البعض وربما يكون هناك اتفاق مسبق في اليوم الذي سيقام فيه جداد النخيل، و يسترزق الفقراء في هذا اليوم بما يحصلون عليه من رطب و تمر الأغنياء والميسورين.
ويتهافت البسطاء من العامة على الجداد فور سماع صوت الوراد، كما يجتمع الناس في هذا اليوم على مساعدة بعضهم البعض ويتم الجداد بالتوالي فكل يوم مع أحدهم،ويعقب العمل وجبة غداء تقام عند صاحب المال في مكان واحد، وحسب بيوت أصحاب المال، وعادة ما تكون وجبة الغداء من الرز الأبيض ومعصورة " عصارة الليمون مع سمك المملح أو العوال البصل المكثف).
وبعد قطف الرطب من العذق أو خرط البسر منه (إزالته) يرمى العذق في الشمس ويصبح "عسُوَّا" ـ تلفظ بضم السين و بفتح وتشديد الواو ـ وجمعها بالعامية "عساوة" ويستخدم عسوا العذق كمكنسة لفناء البيت أو وقوداً للنار و خاصة لإعداد القهوة التي لا تحتاج إلى نار عالية.
موسم حصاد البر (القمح)
تسمى حبوب القمح في بعض المناطق عند العمانيين، "بالبُر" وموسم حصاده في الصيف ولست متأكداً في بداية القيظ أم في وسطه أم في نهايته، ولكن أذكر تجمع أعواد سنابل القمح وتفرش على مسطحات الحجر ألأبيض في الوادي يسمى "الصفا" أو الجنّور (الجنور بتشديد النون ومع قلب حرف الجيم ياء أي الينور) وهو مكان في الوادي علوى شمال مسجد العلوي بحارة سيح العافية ثم يصيف البر (تضرب السيقان بمؤخرة أعواد النخيل (الكرب جمع كربة) في القش إلى أن يخرج الحب من السنابل، ثم يطيب أي ينخل، ويتعاون الجميع في هذا العمل وشأن هذا الموسم موسم "الجداد والتبسيل". ويقال "يصيف البر" أي تم حصاد القمح. ويقال "تم التبسيل" أي تم الانتهاء من اجتناء ثمار النخيل، ومنها بسر المبسلي الذي يطبخ ويسوق.
اجتماعياً تستخدم مواقيت هذه المواسم أحياناً كمرجع لمعرفة وقياس الأوقات أو رصد الأحداث والأفراح والأتراح، و تستخدم شوائب ومخلفات القمح في السابق كالقش و غيره في تشييد مباني الطين، لأنه يساعد في تماسك الطين، ويسمى "التبن" بعد خلطه في غيلة الطين.
تعبى حبوب القمح في أكياس وتحمل بواسطة الحمير إلى مستودعات البيوت، وما تبقى من اللقاط (الرقاط)على الأرض فإنه يترك للفقراء ممن تعاونوا في تطييب القمح، فالكل يستفيد الغني والفقير،والقمح من المواد الرئيسة للغذاء قبل انتشار استهلاك الأرز الذي كان يستورد من دولة الهند بأسعار باهظة. وذرر القمح لا يقتصر استخدامها لعمل الخبز بل لأكلات عديدة ومنها الهريس الذي يطبخ باللحم.
جميع تلك التظاهرات الاجتماعية المذكورة عن "التبسيل" و "التصييف" تكاد تكون قد اختفت نهائياً بعد بداية السبعينات خاصة تظاهرات حصاد القمح والتي كانت آخر مشاهدتي لها في أواخر الستينات.
عندما بدأ عصر النهضة تقلصت بسبب حصول الناس على أعمال في العاصمة أغنتهم عن هذه الأعمال المتعبة في القرى، خاصة بعد تناقص المياه وعدم توفر الأيدي العاملة المحلية بسبب الهجرة إلى مسقط.
والمزارع نوعان في إبراء: النوع الأول مزارع الأشجار كالنخيل والمانجو والليمون والسفرجل والموز والجوافة وغيرها من الحمضيات، فهي تزرع في منطقة البلاد. والنوع الثاني مزروعات تحتاج إلى ضوء شمس أكثر فتزرع في العوابي ومن أمثلتها القمح والخضار والفواكه الصفية وكذلك علف الحيوانات حيث كانت معظم هذه المزروعات للاستهلاك المحلي، وأمّا ما كان يصدر إلى الخارج عن طريق مسقط فهو البسر والليمون الجاف ومن الداخلية كان هناك منتجات الجبل الأخضر كالرمان و من الباطنة الموز الأخضر ومن المناطق الساحلية ربما كان السمك.
ورث أجدادي من أبيهم مزارع عديدة من كلا النوعين الضاحية و العابية، بلكان هناك مخزن بالبيت الشرقي لتخزين محاصيلها من تمور وحبوب، و عندما تغيرت الظروف بسبب المحل والأوضاع السياسية نتيجة الخلاف بين الحكمين الإمامة في الداخل والسلطنة في الساحل تضرر الناس؛ الشيء الذي دفع بهم إلى الهجرة خارج البلاد سعياً لطلب الرزق.
كلما تذكرت تلك الأيام التي عشتها في طفولتي وبداية شبابي صعب عليّإخفاء مشاعري تجاهها، خاصة عن تلك الحقبة من الستينات، وفيها أتذكر كل شيء حتى شجر السمر والسدر التي كنت أستظل تحتها، أو العب عندها مع رفاقي من أولاد الحارة، فبالإضافة إلى سدرة عمر وسدرة راشد و سدرة المزحاط في الوادي عند السباخ فما زلت أيضاً أتذكر شجرتي سمر لست متأكداً هل مازالتا هناك أمام بيتنا السابق "البيت الشرقي" حيث تفصلهما عن بيتنا شرجة (الشرج مسيل الماء من الهضاب).
هنا كطريق من القار على الشرجة وقد تم رصفه الآن. السمرتان تقعان على زاوية جدار البيتمن الغرب والأخرى في زاويته الشرقية. وسمرة أخرى عند طوي الواسط ربما هي التي داخل بيت الوالد المرحوم عبد الله بن عمر، وأخرى شرقي بيت الوالد المرحوم ناصر بن عمار، ربما هي التي الآن بداخل بيت المرحوم أخيه أحمد، وهناك شجرة غاف على الزاوية جنوب بيت المرحوم الوالد سالم بن سليمان الملقب بولد خير، و أتذكر اللمباة (شجرة مانجو) أمام مسجد الحدري، في ضواحي ميانين على مدخل ضاحية المرحومة الوالدة رينا بنت حمد.ما زلت أتذكر جبل الساح، وجبل ثامر تلك التلة التي كانت شرقي المقبرة العلوية، ربما هي التي أقام عليها المرحوم سيف بن سالم منزله في نهاية السبعينات، هذه كلها معالم،،،والله أعلم من يدري،قد يستدل بها لإثبات حقوق في يوم من الأيام مهما طال الزمان.
- عبد الله السناوي - شارك
-