-
-
ذكريات–16 د
(سيح العافية 6):-
الحياة العامة -1
كانت الحياة بالنسبة لي في الحقيقة، في فترة الستينات غامضة،خاصة في الفترة التي كنت أدرس فيها بمسجد الجامع، أنا لا أقصد هنا الدروس التي كنا نتلقاها، ولكن كان ما ندرسه وما كنت أراه في الواقع مغايراً تماماً، من خلال تصرفات الغير، والإساءة في فهم الدين، وكنت أتساءل دائماً ماذا سنعمل من أجل كسب قوتنا اليومي؟ لقد نلنا ما يكفي لتسيير حياتنا الدينية، لقد تعلمنا القرآن وأتقنا القراءة والكتابة ومبادئ قواعد اللغة العربية، ماذا بعد هذا؟ ألا يوجد لنا عمل في إبراء؟ ماذا سيفيدنا ما تعلمناه ما لم نطبقه سوى أن نعمل عمالاً في نقل أتربة البناء والأحجار على ظهور الحمير أو في مزارع النخيل؟ أجراء مع شخص جاهل، أقل منا تعليماً لا يقدر ما تعلمناه.
وكنت أرى الحياة اليومية العامة للسكان في إبراء، وبالذات في حارتنا سيح العافية والحارات المجاورة في قرية السفالة حياة بسيطة، لا يستخدم العلم فيها، ولكن طبعاً يسودها التعاون والتكافل الاجتماعي، والتعاضد بين السكان، وهناك ألفة بين الناس، وكنت أحس دائماً بأننا ننتمي إلى أسرة واحدة، حيث الصغير منا ينادي الكبير عمي أو خالتي، وفي الحقيقة عائلتنا (عائلة أولاد حمود بن جندب) تربطها صلة قرابة أكثر من غيرها مع أهالي سيح العافية قد تصل نسبتها من 80 إلى 90 في المائة، أقول هذا دون مبالغة، وقد تمتد هذه القرابة إلى بعض الحارات المجاورة في قرى السفالة مثل السباخ والجبل تلك التي تسكنها قبيلتا المطاوقة والعاسرة. تتسلسل تلك القرابة من أم أجدادي، وأم والدتي، حتى إني فصلتها في باب خاص من كتابي المرتقب بعنوان عائلة وأقارب حمود بن جندب.
عندما كنا نمر في أزقة الحارة، ونصادف مرور أحد الأهالي، كان لا بد أن نلقي عليه التحية، أو نمسي، أو نصبح عليه مع كلمة "عمي أو خالتي" تكون مرادفة للتحية، لأننا نعتبر أنفسنا في الحارة أسرة واحدة، وإذا ارتكب أحد منا خطأ (من الأطفال أو الشبان) وأضر بالمصلحة العامة، فإنه يعاقب في نفس اللحظة بالزجر أو بالضرب من قبل أي شخص يصادفه، دون انتظار أبيه أو ولي أمره، ويبلغ ولي الأمر فيما بعد.
الأهل لا يتدخلون عند حدوث مشاجرة بين أطفالهم وأطفال الجيران، أو أطفال أهل الحارة،بل يتركون الأمر لهم يحلونه بأنفسهم، وفي حالة إن راح أحد المتشاجرين يشكو عند أهله أو لولي أمره، بأن زميله ضربه على سبيل المثال, أو اعتدى عليه، فإن كل ما يفعله ولي الأمر هو أن يعطيه عصا فيذهب لكي يدافع عن نفسه، حتى وإن غلب،فإن مصيره في النهاية سينتصر، والقصد من ذلك كي لا يتعود الطفل على الأتكالية في أخذ حقه، وعند حدوث خلاف بين ألأهالي داخل الحارة، أو نزاع بسبب الأبناء أو الممتلكات أو بسبب مشكلات اجتماعية، فإنها لا تخرج خارج نطاق الحارة ويتم حلها داخلياً، بما يسمى "بالصلح"، اللهم إلا إذا لجأ الخصم إلى أصهاره من قبيلة أخرى.
وللزوجة حق زيارة أهلها مرة كل سنة ولمدة شهر تقضيه عند أهلها إذا كانت من قرية أخرى، وأيضاً عند الوضع تبقى مع أهلها إلى أن تتعافي، وتطعم بشكل جيد، حتى تستعيد عافيتها،حتى تعود للقيام بواجبها الزوجي والمنزلي، وعلى الزوج أن يوفر لها كل تكاليف الإقامة مع أهلها، من أكل وملبس. وبعد الوضع فإن المولود يكرم عند زيارة أهله, وأقاربه، وأذكر أنه كان يوضع بما لا يقل عن "قرش فرنسي" تحت مخدة المولود قرب رأسه ، أي بما يساوي أجرة عمل 3 أيام، وفي الحقيقة كان ذلك يساعد في التقليل من تكاليف الضيافة.
تولى النظافة أهمية قصوى في الحارة باعتبارها من الدين "النظافة من الإيمان" والبيت الوسخ مكروه في اعتقاد أهل الحارة بأنه يجلب الشياطين، وأول ما تفعله المرأة في الصباح قبل تنظيف أبنائها هو نظافة بيتها بالكنس من الداخل ومن الخارج وفي السكة التي أمام البيت، وبعد تجميع القمامة أو الهول (الهول: بقايا أوراق سعف النخيل الصغيرة، أو ذرات مخلفات الحطب)يتم نضح (رش) السكة بالماء منعاً لتطاير الغبار.ترمى القمامة في مكان مخصص لها يسمى لكنيسة، (تلفظ بسكون اللام)، وهي مجمع القمامة، والكلمة مشتقة من "الكنس".
ولكنيسة، كما أشرت هي مجمع القمامة مشتقة من كلمة مكنسة، وأتذكر كان هناك موقعان مخصصان لرمي القمامة،أحدهما تحت اليهت (اليهت هو عبارة عن أرض مرتفعة من الحجر المسطح يكون عادة على سطح المغارات)، وكان موقع ذلك اليهت حدري بيت نصير في النزلة غربي بيت المرحومة الجدة ياسة بنت حمد، واليهت الآخر يقع حدري وخلف بيت المرحوم عامر بن سعيد مهبط ميانين من الشرق، وتجمع المخلفات بعد حرقها من لكنيسة بين كل فترة وأخرى، ويأخذ ترابها ورمادها (العفار) سماد لعوابي البصل والثوم.
التواصل والعلاقات العامة بين الأهالي من مميزات القرية، ولكي يكون هناك تكافل لابد من وجود تواصل، ومن وسائل التواصل الاجتماعي،يبدأ أولاً من المسجد الذي يلتقي فيه الناس لتأدية الصلاة، ويأتون بعده السبلة للاستراحة بعد صلاة الظهر لتناول القهوة، وبينما ينشغل البعض في أعمال السعفيات،نجد الشباب يعدون القهوة،
والسبلة ليست مخصصة للجلوس بعد صلاة الظهر فقط، بل تستخدم لكل المناسبات العامة كالعزاء مثلاً، وعقد القران (الملكة)، ومصافحة العائد من السفر(السفري) وأيضاً بيت للضيافة،وبجانب السبلة هناك البرزة، أو"مبرز"وهو مجلس مكشوف يجلس فيه الأهالي أيام الصيف كمكان مكمل للسبلة، وكما سبق فإن سبلة أهل حارة سيح العافية كانت هي السبلة الحدرية التي سبق ذكرها، بها مكان مخصص لربط الحمير في الجهة الشرقية من المبرز.
يقضي الشباب العاطلون عن العمل وقتهم في الصباح في لعب "الحواليس" تحت ظلال السدر، أوتحت جدران مزارع النخيل "لبلاد على الوادي" وأذكر منها "سدرة عمر" و "سدرة راشد" و سدرة ضاحية "مزحاط" المحاذية لحلة السباخ من الوادي، وأيضاً يقضون الوقت تحت ظلال ضواحي "ميانين" في جهة الوادي.
يبدأ صباح الحارة مع بزوغ الفجر باستيقاظ الجميع، من صغار وكبار، يذهب الذكور بما فيهم الصبية لأداء صلاة الفجر في المسجد سواء كانوا جماعة أم فرادى، فالصلاة واجبة في المسجد لكل الناس، إلا من كان طريح الفراش فيصلي في البيت، والنساء أيضاً يذهبن إلى شريعة الفلج والمصلى، ومن لديها مصلى وبئر في البيت تعتبر من النساء الميسورات؛فتصلي في بيتها،وبعد فراغها من تأدية الصلاة تقوم بحلب البقرة أو الشاة لتعد اللبن لأهل بيتها إذا تيسر،والفطور يكون من خبز الرخال، مع الشعرية (السيويا)، أو مع عسل النحل، أو "الغراميل" المحلاة بعسل النحل أو من دبس التمر، وقبل هذا كله يتم تحضير التمر والقهوة وهي وجبة الفقير والغني على حد سواء.
يقوم إمام المسجد بعد صلاة الفجر ليذاكر القرآن الكريم مع الصبية حتى مطلع الشمس وبعد تناول الإفطار الكل ينفض إلى عمله.
وعندما يخرج الزوج إلى عمله، تبدأ الزوجة في أعمال بيتها من تنظيم وترتيب قبل أن يحين وقت الضحى، وتكون مستعدة لاستقبال زوارها من النساء، وبعد الطلقة، طلقة العمل وطلقة التلامذة (التلاميذ) من المدرسة بعد انتهاء الدوام وقبل صلاة الظهر تكون وجبة الغداء قد جهزت من قبل الزوجة، ويتغدى الجميع في صحن واحد بدهريز البيت مشكلين حلقة جلوس على الأرض. وعادة ما تكون وجبة الغداء من الأرز والمرق، وسواء أكان المرق من لحم، أم من سمك، أو من دجاج. والأكل الباقي من الغداء لا يرمى بل يؤكل في وجبة العشاء، ولا يوجد براد لحفظ الطعام، أما وجبة العشاء تكون من خبز الرخال والمرق، أو الأرز بالنسبة لغير الميسورين.
الأرز في الماضي من الوجبات الرئيسة، وأيضاً في الحاضر، وعندما أنعدم الأرز عن عمان خلال الحروب، اعتمد الناس في أكلهم على ما يزرعونه من قمح وشعير ونوى التمر ليصنعوا منه الخبز. وأذكر عندما كان والدي غائباً عنا في ظفار، كنا لا نجد ما نأكله من الأرز؛ بسبب الغلاء الفاحش الذي كان يسود في ذلك الوقت، وعدم توفر المادة أيضاً، مما نضطر إلى أن نأكل التمر مع مرق السمك المشوي في وجبة العشاء. كانت الحياة قاسية؛ذلكما دفعني إلى الخروج إلى العمل لأتحمل مسؤولية الأسرة في سن مبكرة.
ومن الأعمال التي كانت متوفرة في ذلك الوقت العمل في المزارع، أو كأجراء في خلط الطين (الغيلة) لبناء المساكن، أو العمل على الحمير لنقل أتربة البناء والحجارة، أو العمل في خدمة الأفلاج، لا غير ذلك، تلك الأعمال كما نرى لا تحتاج إلى متعلمين. لذا نرى الكثير منا ممن أنهوا تعليمهم الديني سافروا للعمل كوليه (عمال) في دول الخليج، وإذا تعسر عليهم السفر انضموا إلى الجيش للحرب في ظفار، حتى وإن كانوا غير مقتنعيين بما أقدموا عليه، وكان ما يكسبه الفرد من أجر لا يكفيه حتى لقوت نصف يومه. هكذا فمن استطاع أن يرهن ضاحيته، أو خنجره وأعز ما يملك سافر إلى أفريقيا، ومن لم يستطع بقي على حاله منتظراً أن يأتيه الفرج.
كانت الهجرات كثيرة من شمال الشرقية إلى شرق أفريقيا، والسر في ذلك في اعتقادي الشخصي،بأن قبيلة الحرث كانت مناصرة للإمامة في ثورة عزان بن قيس (1869 – 1871م) فتضرر دخلها من جراء الضرائب الجمركية المرتفعة التي فرضت على منتجاتها الزراعية عند تصديرها إلى مسقط، والشيء الآخر تعاون القبائل السابقة إلى شرق أفريقيا في استقبال أخوانهم وتيسير الإقامة والعمل لهم،تماماً كما تفعله العمالة الوافدة في الخليج الآن لمساعدة بعضهم.
فالحرث وصلوا أفريقيا في وقت مبكر،وقد قرأت هذا في عدة كتب،وربما يكون من المقيد أن أقتبس فقرة للإطلاع من كتاب الدكتور حسين غباش "عمان الديمقراطية الإسلامية والذي يقول في صفحة رقم 188:(يقصد بشرق أفريقيا هي مجموعة جزر ومدن ساحلية أهمها: زنجبار، وبمبا (Pemba) وكيلوه (Kilwa)، وممباسا Mombasa))K وهذا المجموع الساحلي الذي يبلغ طوله 1500 كم تقريباً، هو الذي عرف باسم منطقة زنجبار). انتهت الفقرة، وتعليقي: في الحقيقة ممباسا تابعة لجمهورية كينيا وأعتقد كيلوه أيضاً.
ويقول غباش: (يعود الوجود العربي، وخاصة العماني في هذه المنطقة إلى القرن (الثاني الهجري / التاسع الميلادي)، رغم أنه من المحقق أن صلات قامت قبل ذلك التاريخ بكثير، على ذلك فإن بداية التواجد العماني والرسمي والفاعل لا يرقى إلا إلى النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي.
ما من شك في أن وراء هذه الاتصالات المبكرة أسباب ذات طابع تجاري، إلا أن جانبها دوافع ذات طبيعة سياسية ـ دينية. فبعد سقوط دولة الخلافة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الأول، وبسبب صراعات دينية داخلية، أرغمت بعض القبائل والجماعات العربية على ترك منطقة البصرة ـ التي كانت آنذاك مركزاً إسلامياً وثقافياً كبيراً ـ والالتجاء إلى عمان والبحرين ومنطقة شبه الجزيرة العربية. وفيما بعد هاجر عدد من هذه الجماعات إلى منطقة شرق أفريقيا. ولكن الهجرة العمانية إلى هذه المنطقة تسارعت بصورة أوضح بعد سقوط إمامة عمان الأولى، إمامة الجلندا بن مسعود (135هـ/751م) تحت ضربات العباسيين وبعد القمع الدموي الذي أعقب ذلك السقوط.
توصل العمانيون إلى إقامة إمارات عربية عدة في هذه المنطقة فقد أنشأت قبيلة الحرث مدينتي مقديشو (Mogadishu) وبرافا (Brava) حوالي عام 924م، وتمتع مجموع الإمارات ـ بعيداً عن خصومات الدولة العربية الإسلامية وصراعاتها الداخلية، وبفضل غنى هذه المنطقة ـ باستقرار سياسي واقتصادي مزدهر دام أكثر من سبعة قرون، ولم يضطرب إلا مع وصول البرتغاليين مطلع القرن السادس عشر، انتهت الفقرة.
وكما نعلم بأن العمانيين بقيادة سلطان بن سيف الأول (1644-1688م) استعادوا هذه المنطقة من البرتغاليين وأقاموا دولة عمانية حتى عام 1964م.
- عبد الله السناوي - شارك
-