-
-
مظاهر العيد في إبراء في الماضي - ذكريات (١٠د)
مظاهر العيد
من مظاهر العيد في السابق هي الهبطة، والهبطة تعني هبوط الناسإلى السوق قبل العيد بأسبوع بشكل استثنائي لشراء احتياجاتهم من أكل وملبس وأدوات وأواني، وفضيات.
وفي الهبطة تقام عروض لمختلف السلع، ويتم في السوق مناداة الأضاحي من الماشية، كالأغنام والأبقار، ولكن تسبق الهبطة استعدادات داخل البيوت عند ربات البيوت كتحضير البهارات ودق الحناء الذي يستخدم ذروره (مسحوقه) بعد خلطه بالسوائل لتزيين أيدي وأرجل النساء بالنقوش، وأيضاً للصغار من الصبيان دون سن الصلاة.
وكانت هبطة إبراء في السابق لها نكهة خاصة، وكنا نحن الصغار دون السابعة نترقبها بشوق، لا تقل فرحتنا بها عن فرحة العيد، نلبس الملابس الجديدة ونعطى مبلغاً من المال لشراء ما نريده، ومنا من يشتري تغليفة حلوى أو بسكويت أبو فراخ، و لوز وسبال (فول سوداني) ونارجيل مجفف (جوز الهند)، أو مشاكيك لحم يعرف بالزاهب.
يزدحم السوق من كل فج عميق، يكاد لا ترى زميلك من اكتظاظ الناس، لا تسمع إلا أصوات المناداة على الأغنام، الكل مبتهج، لا ترى من يلبس السروال والقميص حيث لا وجود للأجنبي، الكل يتحدث لغة واحدة وبلباس واحد، ومن لديه بيسة أو بيستين منا يهرع لشراء المكسرات، ونعود إلى البيت محملين بما كنا نتمناه، ولا يوجد أي شكل من أشكال الألعاب التي نراها الآن إلا نادراً ربما المسدسات المائية التي أتت في نهاية الستينات.
كان السوق تأتيه أيضاً النساء من سكان البادية ومعهن الأغنام يعرضنها للبيع، وما صنعن من غزل، ويمتلئ السوق برائحة الأغنام والبهائم وروائح البهارات كلها تختلط فتعطيك نكهة خاصة لذكرى لا تنسى عن ذلك اليوم.
وسوق السفالة القديم الذي كان يعرف بسوق الحرث في السابق، يقع في حلة القناطر، وكنا نصل إليه مشياً على الأقدام من حارة سيح العافية، كما تأتي السوق قبائل أخرى من مختلف قرى إبراء ومن الحلل المجاورة لتبتاع ما تريد، وهناك سوق في العلاية مماثل له،يتهيأ لي بأنه أوسع عن سوق إبراء في المساحة، وكنت أذهب إلى هذا السوق عندما يقام سباق للخيل، وينشط سوق إبراء في أيام الهبطات التي تسبق العيد بأسبوع، وتأتيه قبائل حتى من خارج إبراء، تأتي بسلعها ومنتجاتها.
ودكاكين السوق تتشكل في ثلاثة أسطر لا أذكر عددها ولكن لا يقل عن اثني عشر دكاناً في كل سطر والله أعلم، تقع في ثلاثة اتجاهات، سطر في الغرب وسطر في الشمال وسطر في الشرق. أما في الجنوب يوجد جدار بيت اللمبية من الجص يجلس تحته القصابون بائعو اللحوم والأسماك، وفي ساحة السوق في الوسط توجد شجرة الغاف يستظل الناس تحتها، وللسوق ثلاث مداخل مدخلين من الشمال (شمال الغربي، وشمال الشرقي) ومدخل من الشرق ومساحة الدكان الواحد صغيرة ربما لا تزيد عن 2×3 أمتار يستخدم فقط لتخزين البضائع، وعند البيع يبرز البائع (يجلس)، أمام باب دكانه تحت سقف من سعف النخيل، موزعاً بضاعته في سلال من سعف النخيل (قفر).
السوق لا يفتح إلا وقت المساء بعد صلاة الظهر، وعندما كنا نذهب نجد ـعلى مدخل السوق من ناحية الشمال الشرقي دائماً ـ رجلاً وقوراً كفيف البصر كبيراً في السن عليه عمامة المطاوعة جالساً بخنجره وعصاه في مبرز أحد الدكاكين، وعلمت فيما بعد بأنه عسكري مفوض، عنده صلاحية الضبط القضائي، ويحكم بين الناس، فيسجن كل من يراه مخالفاً أو معتدياً على غيره. وفي المدخل الشرقي يجلس المحسن (حلاق) يحلق للناس، ومعه أيضاً آلة لسن السكاكين والمجاز (تلفظ بفتح وتشديد الجيم ومفردها مجز وهو منشار على شكل هلال لقطع الزور سعف النخيل).
و كما أسلفت لا توجد دكاكين من الجهة الجنوبية للسوق عدا جدار ظهر بيت اللمبية، لعل تسمية المبنى بهذا الاسم لوجود شجرة اللمبية داخله، وشجرة اللمبية من الأشجار الكبيرة المعمرة، يتهيأ لي فاكهتها تشبه فاكهة البرقوق الأخضر plum (نوع من الخوخ) لا أتذكرها.على كل حال كنت أكره أن أمر أمام باب مدخل هذا البيت، عندما علمت بأن الناس يسجنون بطمرهم تحت الأرض، أي وضعهم في حفرة داخل صفة مظلمة، تشبه حفرة الشواء عند ارتكابهم لجرم. وكنت اشمئز واشعر بالقشعريرة عندما أتخيل كيف يستطيع الإنسان أن يعيش في تلك الحفرة الضيقة المظلمة؟ وكيف له أن يتحمل حرارة الصيف وهو مقيد الرجلين بقيد من حديد قد يصل وزنه إلى اثنين كيلوجرام، طبعاً لا وجود لمنظمة الـ human right منظمة حقوق الإنسان في ذلك الزمان. الله سبحانه تعالى يقول في كتابه العزيز سورة الإسراء الآية 70: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) كرَّم الله الإنسان لا أن يهان. وكنت أرى من الأفضل أن يقتل السجين بدلاً أن ينال ذلك العذاب، تخيل لو كان لديه ضغط الدم أو السكري الذي كان غير معروف في ذلك الوقت وتوفى سيقال بأنه قضاء وقدر "إنا لله وإنا إليه راجعون". من الذي سيطالب له بحقه!!؟.
كنت أتحاشى مرافقة زملائي الذين أدرس معهم بمسجد الجامع عندما أعلم بأنهم سيذهبون إلى هذا المبنى، لاستراق النظر من شقوق الباب لرؤية السجناء. حيث الجامع لا يبعد عن هذا المبنى إلا بضع خطوات ويقع المبنى على الدروازة في نفس السكة التي تؤدي إلى الجامع.
بالرغم من اشمئزازي... إلا أنيلا أستطيع أن أقاوم فضولي من معرفة ما بداخل هذا البيت، ودائماً هو مغلق من الخارج، وعندما نعلم بأن هناك سجين، نحاول أن نتجسس من شقوق الباب لمعرفة ما بالداخل.
ويوجد شرقي هذا البيت مسجد صغير مبنى من الجص بقربه بئر يمر من تحته فلج ماراً من داخل بيت اللمبية، وشمال المسجد مقابل مدخل السوق يوجد مربط للحمير، وهناك ساحة عليها ركز لربط الدواب، الفكرة شبيه بفكرة مواقف السيارات أمام الأسواق في وقتنا الحاضر.
في السكة التي شمال السوق بها صفة من الدكاكين، معظمها للمهنيين، وأيضا لبيع الحلوى، وتؤدي هذه السكة إلى داخل حلة القناطر إلى الوادي حيث تقع سبلة الحرث على يمين المهبط، وقد قيل لي بأنه عندما يأتي الأمام (الإمام محمد بن عبد الله الخليلي 1919 – 1954) يستضاف في هذه السبلة أو تحتها في الوادي والله أعلم.
سوق السفالة، بالرغم من صغر مساحته لكنه يستقطب كثيراً من الزوار، ربما لكون إبراء تتوسط منطقة شمال الشرقية، ولم تكن السيارات تستخدم طريق إبراء كمعبر إلى صور كما هو الحال قبل فتح طريق قريات - الصور، لأن أهل صور لهم معبرهم البحري مطرح ـصور.
منذ عام 1967 م بدأت الحياة تتحسن، بدأت أرى عامة الناس يلبسون النعل المستوردة "الزنوبة" المستوردة من الهند، بدلاً من تلك التي كانت تصنع محلياً من الجلد وأشرطة رباطها من خيوط الصوف أو أجربه "الزربول" المصنوعة من صوف الأغنام.
الكثير كان يلبس النعل المصنوعة من الجلد التي كنا نعرفها بالنزوانية، ربما كانت تصنع في نزوى، وبدأت أرى الناس تضع ساعة المعصم، وكان من أشهرها "west end"، وكان يباع في السوق صابون غسل الملابس من ماركةsurf ثم أتى صابون الاستحمام lux، وفي شهر رمضان كنا نشتري من السوق الكسترد custard مسحوق المهلبية (الفرنيه) والكويكرQuaker white oats، ذرورة الشوفان لشربة "السخونة"، والسيويا (الشعرية)،وكنا نجد في السوق أيضاً بعض الأدوية البسيطة وعلى سبيل المثال كالفيكس vix والأسبرو، وكان ذلك بسبب تحسن الطرق إلى مطرح بعد أن تولت دائرة في الحكومة تسمى دائرة التحسينات مسح طرق وادي العق من وقت لآخر، وقد يعود الفضل لإنشاء شركة تنمية نفط عمان PDO التي تأسست للتنقيب عن النفط، وفي نفس الفترة تقريباً تم إنشاء مستشفى النهضة، وتغير الصرف إلى الريال السعيدي، والطوابع البريدية من صورة ملكة بريطانيا.
استوظفت PDO كثير من أهالي إبراء، ممن لديهم خبرة في السياقة، وأيضاً ممن يتحدثون اللغة الانجليزية من أولئك الذين عادوا من أفريقيا.
وفي نفس الفترة تم تجنيد عدد من أهالي إبراء في الجيش وكان والدي على رأس قائمة المجندين في القوات المسلحة للقتال في حرب ظفار. وأذكر خمسة من أصل عشرة أفراد كانوا من أهالي حارة سيح العافية بما فيهم والدي وابن خالي.
جرت العادة يوم العيد أن يجتمع أفراد قبيلة السناويين من الذكور في بيت أحد علماء القبيلة، وكان بيت جد خال والدي،الأخ غير الشقيق لوالدته، وقد عرف ذلك البيت فيما بعد ببيت "القبولي" يجتمع أفراد القبيلة في الصباح عند طلوع الشمس من الصغار والكبار والفقراء والأغنياء لتناول وجبة العيد "القبولي" ثم ينتقلون إلى السبلة للسلام وتهنئة بعضهم البعض، وبعد ذلك يتجمعون تحت شجرة سدرة تعرف "بسدرة عمر"حيث لم تعد هذه السدرة موجودة الآن، لقد اقتلعت بقرار فردي بعد موتها بسبب حجب المياه عنها من جراء استبدال الساقية بأنبوب من المطاط لمجرى الفلج.
من تحت هذه السدرة يتم الانطلاق لصلاة العيد، وفي منتصف الطريق تنضم إليهم قبائل أخرى:مثل قبيلة المطاوقة والعاسرة من حلة السباخ وقبيلة الغيوث من المعترض والمشاهبة والبراونة من حلة البارزة والمعامرة من حلة المنزفة، وغيرها إلى أن يصلوا إلى آخر التجمع من حلة القناطر ليلتقوا بقبائل آل عرفة وغيرهم، وبذلك يكون التجمع الأخير قد اكتمل فيه معظم قبائل الحرث لتلتقي في المصلى بالوادي بقبائل المساكرة من منطقة العلاية.
ومن العادات المتبعة ألا تقام صلاة العيد دون اكتمال كل أو معظم قبائل الحرث والمساكرة، وتعقب صلاة العيد في الوادي مسابقة الرماية بالبنادق على أهداف من الحصى تكون قد صفت مسبقاً، ومن لا هواية له في الرماية ينضم إلى أفراد أسرته أو أولاده لشراء الهدايا وألعاب العيد من الباعة البارزين تحت ظل جدران الضواحي المطلة على الوادي، ومن ثم يغادر الجميع إلى منازلهم لأداء تهاني العيد لذويهم أو لمن تبقى من الرحم والأقارب وكبار السن، من النساء. وتبدأ بعد صلاة الظهر فترة ذبح الأضاحي وتستمر بهجة العيد حتى اليوم الثالث. في السابق كان الناس لا يذبحون إلا يوم عيد الأضحى بسبب الظروف المادية، وأذكر ضرب طبل يقرع في السوق لأعلام الناس بالمنع من قبل شيخ القبيلة.
أما فيما يخص سدرة عمر، لست أدري كيف أتت هذه التسمية هل هي نسبة للشخص الذي كان كثير التواجد تحتها عن غيره، أم الاسم لغير ذلك، ولكن بما علمته من أحد سكان الحارة، بأنه كان الشياب من أمثال جدي الأكبر(والد أبي والدي) وبعض أمثاله من الشياب في ذلك العصر بالإضافة إلى الشايب عمر نفسه وآخرون من سكان الحارة كانوا دائمي التواجد تحت هذه السدرة قبل وبعد كل صلاة.
وما يجدر بذكره لأحفادي بأن البيت القديم لجدنا الأكبر كان يقع مقابل تلك الشجرة شرقي الدروازة العلوية قبل أن يبني البيت الشرقي، وعلمت من أبي ـ رحمه الله ـ بأن أصل حارة سيح العافية كانت المنطقة الواقعة في نطاق حدود الدروازة العلوية، و من ثم أمتدت إلى حدرى (الجنوب) وكانت سبلة السناويين هي "سبلة البرج" التي تقع في الجنوب الشرقي من بيت الجد المذكور، وما زال برجها الطيني قائماً حتى عصرنا هذا، ولما زاد عدد سكان الحارة تبرع أحد الوجهاء (جد أم أبي الثالث)بجزء من بيته لتكون سبلة للسناويين وهي التي تعرف الآن بالسبلة الحدرية.
سدرة عمر كانت تعتبر نقطة تجمع لأهالي الحارة للانطلاق منها في المناسبات،كمناسبة العيد أو لأداء واجب العزاء في القرى المجاورة على سبيل المثال، وفي العيد بعد أن يكتمل التجمع ينطلق الجميع بالأهازيج والطرب، ويتقدم الشياب من كبار السن الصفوف إلى أن يصلوا مصلى علوي الفلج الذي يشق الوادي، بخلاف بعض المناطق التي تكون مسيرتهم للصلاة بالتهليل والتكبير.
لكن الآن قد تغير الوضع،إذ أن معظم الناس يذهبون إلى المصلى بالسيارات. والمظاهر السابقة التي كنا نراها بدأت تختفي، كما أن نسبة تواجد الوافدين في المصلى قد تفوق المواطنين بالضعف تقريباً.
- عبد الله السناوي - شارك
-