1. التناقض في حياتنا

      أتعجب أحيانا عندما أجالس بعض الأخوة ممن تقاعدوا من الخدمة المدنية أو العسكرية حتى ممن بقوا على رأس عملهم إلى ألآن، أتعجب كيف يتحدثون بحماس عن مستوى الخدمات الطبية في الخارج، ومستوى الرعاية الطبية هناك، خاصة الأخوة من مرتادي مستشفيات شرق أسيا، دون الإشادة حتى بالقليل في حديثهم عنما يقدم من خدمات طبية في مستشفيات عمان، سواءً كانت الخاصة أو العامة؛ هل يعني هذا بأن هناك خلل فعلاً أو تقصير في تقديم الخدمات بمستشفياتنا ؟ أم أن هذا المدح فقط لتبرير ذهابهم إلى هناك، من باب الرفاهية (السياحة الطبية)؟... خاصة أن الذهاب إلى تلك البلدان والعلاج في مستشفياتها بما أعرف عنه أنه مكلف، مقارنة بما يقدم من خدمة في عمان.
      رأيت وسمعت عن كثير الناس يسافرون للعلاج في الخارج، حتى للفحوصات العامة التي تتوفر أجهزتها في عمان، ورأيت هذا السفر لا يقتصر على فئة ذوي الدخل المرتفع بل حتى الفئات البسيطة ذوي الدخل المحدود، ومنهم من يستلف ومنهم من يرهن أو يبيع ما يملك لكي يعالج في الخارج؛...لا اعتراض على هذا، بل كلٌ حر فيما يملك، وله الاختيار أن يعالج في بلده أو خارجها، طالما لا يسيء بالقذف أو يتطاول على العاملين في مستشفياتنا من أطباء و دونهم من المستويات المهنية. ما يغيظني في الموضوع أن المتحدث يطلق عنان لسانه، دون مراعاة ظروف المادية لمن يستمع إليه، وكأن كل الناس ميسورين مثله، أو أنه مستعد ليسلفهم المال، ليس هذا فحسب بل يزرع الشك والإحباط في من يستمع إليه، ويوهمه بأن ما يتلقاه من علاج في عمان قد يكون علاج خاطئ، و يسرد له العديد من الأمثلة، والحكايات نقلت إليه، وتجارب لناس ربما قد فهمت خطأً، أنا واحد ممن تصدع رأسه بنصائح هؤلاء المروجين للعلاج في تايلاند أو إيران، والهند  حتى آني اتهمت بالبخل ومنهم من يؤكد لي بأن السفر إلى الخارج وحده يشفي المرض، وكأنني في ظنه لم أسافر أبداً في حياتي، نسي بأنني كنت "أبن بطوطة" في عهدي؛ إذ كان عملي الرسمي السابق يتطلب مني السفر، قد يصل إلى ثلاثة أو أربعة مرات في السنة.
      ومن خلال اطلاعي و احتكاكي بالأطباء علمت بأن هناك؛ لا فرق في الأجهزة الطبية التي تستخدم في عمان وتلك الأجهزة التي تستخدم في المستشفيات بالخارج، لربما أجهزة مستشفياتنا أحدث، ومباني مستشفياتنا لا تقل رقياً، نعم؛ قد يكون الفرق يكمن في طريقة التعامل والتصرف من قبل الكادر الطبي مع المرضى،...ذلك لعل السبب في قلة التدريب أو عدم التزام البعض بتطبيقه، وهذا له مبرراته الإدارية، (الغير تقنية) تتعلق بكيفية إدارة الموارد البشرية "كالثواب والعقاب" أو المالية كالتدريب مثلا والترقيات، ربما أثر هذا على أداء الموظف في عمله خاصة في المؤسسات الحكومية، لكن هناك وسائل للإبلاغ عن التقصير، ومع هذا علينا لا نعمم ولا نبرر سخطنا على مؤسساتنا الصحية كافة، حتى نبذر المال في الخارج فبلادنا أحوج إليه لتنمية اقتصادها من غيرها، وخلاف لذلك يجب علينا أن نبعد أي تشويه قد يضر بسمعة مؤسساتنا الصحية و "نزيد الطين بلة" كما يقال.
      أنا أتعجب عندما اسمع عن مسئولاً كبيراً متقاعداُ أو ضابطاً عسكرياً، أو أمنياً، يتقاضى معاشه التقاعدي من الدولة ويستثمره في الخارج، أو يكون شبه مقيم هناك، وقد لا يأتي إلا البلد إلا في المناسباتـ؛ و ينقل علاجه أيضا الى الخارج حتى لأبسط الأمراض،... بل يصبح مروجاً كذلك للسياحة لتلك البلد، ماذا تستفيد بلده من مثل هذا؟ ألا يجدر أن يسهم بهذا المال في البلد الذي نشأ وترعرع فيه، حتى يحد من زيادة المستثمرين الأجانب ويقلص هجرة أهلها عنها؟ إذن أي وطنيته التي يتحدث عنها في مجالسه أم انها هي أيضا تقاعدت معه؟ أرى إن ما تخططه له الدولة من أجل تنمية اقتصاد البلد شيء؛ وما يسلكه بعض كبار المسئولين فيها شيء آخر، أذكر في الماضي عندما شرعت الدولة في تخصيص بعض مؤسساتها الخدمية وأعطت التقاعد المبكر المحفز لبعض موظفيها في هذه الخدمات كان على أمل أن يستثمرون ما حصلوا عليه في البلد، وأن يسهموا بخبراتهم، إلا أن ما حدث عكس ذلك منهم من هاجر واستثمر ماله في الخارج و منهم من كفل شركات أجنبية استوظفت عمالة من جنسياتها، نافسوا المواطن في الأجور حتى أن أخرجوه خارج الحلبة. الأجنبي يدرس تقلباتنا السيسيولوجية جيدا ليبني عليها استثماراته، خذ مثلا "الهيبرماركتات" التي أتت أثر تعمين محلات بيع المواد الغذائية ومنع الوافدين من مزاولة نشاط البيع فيها، وازدياد ظهور المستشفيات الخاصة التي استقطبت الكادر الطبي الأجنبي الذي يستغنى عنه في القطاع العام على أثر التعمين...في المؤسسات الطبية. و الذي ساعد في تعدد هذه المستشفيات هو استغلال تذمر المواطنين من بعض أشقائهم الذين حلوا محل العمالة الأجنبية في المؤسسات الحكومية الطبية، هذا خلاف الدعاية المبطنة الغير المباشرة التي يشنها الأجانب عن عدم كفاءة المواطن العمل في مهن هذا المجال. وبالتدريج ومرور الوقت زادت العمالة الوافدة في البلد في مختلف القطاعات سواءً في الطب أو غيره من الخدمات المساندة كالصيدلة والمختبرات أو الخدمات الأخرى في قطاع المقاولات وورش الصناعية، والتجارية، وأصبحت العمالة الوافدة تنافس العمالة الوطنية في الأجور حتى أن المواطن خريج مختلف قطاعات التعليم أصبح من الصعوبة أن يجد له عملاً في القطاع الخاص، و ايضا في الشركات التي تملكها الحكومة التي بها مهن فنية كشركات إمدادات المياه و الكهرباء، والفوترة،...على سبيل المثال مازلنا نري معظم الموظفين الفنيين هذا القطاع من الأجانب. ومما زاد الطنين بلة الوضع الاقتصادي الذي طرأ في السنوات الأخيرة؛ جعل كثير من الشركات تتخلى عن توظيف العمالة الوطنية في كثير من المهن، أو مضايقة من تبقى فيها ليضطر للاستقالة، و زاد عبء مسؤولية التوظيف على المؤسسة الرسمية المعنية بالتشغيل في الدولة و كما يقال أصبحت في وضع "بين المطرقة والسندان"، هناك عدد فائض من مخرجات التعليم دون عمل وفي نفس الوقت وظائف ومهن يشغلها وافدون ما يقارب نصف عدد السكان، فمن يزور عمان يجد العمالة الوافدة بارزة في كل قطاع وفي كل مكان، فالأسواق والشوارع مليئة بهذه العمالة، بسبب تكادس الهجرة، حتى أنه أصبح من النادر أن تجد من يتحدث العربية في أسواق محافظة مسقط، وأيضا العربية المكسرة في أسواق المحافظات الأخرى. لدينا مشكلة اقتصادية يتوجب علينا جميعاً التكاتف في حلها، ليس سببها الرئيسي أزمة النفط بل مشكلة اجتماعية لها طرف في تنمية اقتصادنا المحلي؛ كالسياحة الداخلية مثلاً ورفع مستوى الخدمات الصحية، والحد من العمالة الوافدة الغير الضرورية (العمالة السائبة أو المسرحة) بما يعرف عند الوافدين بتجار التأشيرات "فري فيزا" التأشيرة الحرة.
      الحل ليس في يد المواطن البسيط، بل الحل يبدأ مع هذا الذي يفترض أن يكون قدوة، ويكن ولاءه لبلاده بشكل اكبر،...عليه أن يشارك فعلاً ويشرف شخصياً على توظيف أبناء وطنه في شركاته إذا كان فعلاً يملكها، وعليه أن يساهم باستثمار جزء من أمواله، بدلاً أن يترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لاستثمارات الأجانب أو يعمل سمساراً لهذه الشركات و مروجاً لمستشفيات في بلدان أجنبية. لقد زرت بلدان كثيرة من البلدان الأجنبية ومنها الأسيوية وأعلم جيداً ما بهذه البلدان وكيف تروج عن مقوماتها السياحية لاستقطاب الناس إليها، ومن يذهب من الشباب إلي هناك، يجد هناك مغريات أخرى تنتظره،... خاصة في البلد التي نعرفها أكثر استقطاباً للسياحة، و اسمع بأن عدد العمانيين الذين يزورون هذ البلد يصل بالآلاف واستغرب، منهم ألاف المرضى من الذين يعالجون هناك، و كما سمعت من بعض الأخوة الذي زار السفارة في تايلاند بأن هناك من يرهن جواز سفره للمستشفى، الى أن يجد المال ويسدد فاتورة تكلفة العلاج، هذا يجعلني للأسف أتساءل عن دور وزارة الصحة في هذا الموضوع، على الأقل من باب الدراسة وتقييم الدوافع التي ادت الى هذا المستوى من التصرف لمعالجتها،... أم سنظل نتستر ونترك الحبل هكذا على الغارب

      1. عبد الله السناوي - شارك