-
-
الشعور بالماضي
عندما تصل الساعة الحادية عشرة قبل الظهر وقبل أذان صلاة الجمعة بساعة ونصف تقريباً (بالتوقيت الشتوي)؛ ينتابني قلق غريب في كل مرة أتهيأ فيها لصلاة الجمعة، لا أدري سببه، وأبدأ بذرع البيت شرقاً وغرباً شارد الذهن بخطواتي، ومن زاوية إلى زاوية وأنا أنظر إلى عقارب الساعة إن كانت قد وصلت الحادية عشرة والنصف، وهو الوقت الذي أتحرك فيه من بيتي إلى جامع القناطر مشياً على الأقدام، مبتدأً من سكة طوي سكيكرة – مسجد الغافة إلى الدروازة عند مسجد الحدري شاقاً الوادي إلى مطلاع السوق ماراً أمام استراحة سوق السناويين القديم - مسجد السلالة مخترقاً ضواحي القت سالكاً طريق السوق القديم - الطريق الذي كنت امشي فيه أنا وزملائي من حارة سيح العافية - تلامذة مسجد الجامع.
والغريب لا ينتابني هذا الشعور عندما أكون في مسقط؛ فقط في إبراء، مع العلم أني أذهب أيضاً مشياً على الأقدام إلى جامع النور بدارسيت الذي يبعد نصف المسافة من بيتي بسيح العافية إلى جامع القناطر.
ولا أفضل أن أصلي الجمعة عندما أكون في إبراء إلا في جامع القناطر، على الرغم من أنني أتلقى عروضاَ من جيراني ورفاقي أصحاب السيارات لصحبتهم إلى الصلاة بجوامع كبيرة في إبراء. خاصة من المقربين عندي الذين أعتدت الصلاة بمعيتهم، الصلوات المعتادة بمسجد الحارة
صلاة الجمعة في هذا الجامع العريق به متعة روحانية خاصة لا أجدها في جوامع أخرى، وأشعر بحميمية وأنا بين جماعتي وأهلي نؤدي الصلاة معاً، فما بالك بجامع درست فيه القرآن ومبادئ قواعد اللغة؛ حمل جزءاً من ذكريات طفولتي؛ قبل الانتقال إلى مدارس العلم الحديث.
خاصية الانتماء والولاء في الإنسان للمكان الذي تربى وترعرع فيه تأتي من الفطرة، سبحان الله - ليست في الإنسان فحسب بل في الحيوانات والطيور المهاجرة والأليفة كالدجاج مثلاً الذي يأبى إلا أن يبيت في مرقده. سعادتك للمكان الذي تحبه وترتاح لأهله لا يضاهيها أي سعادة، تجد نفسك تعطي كل ما تملكه يدك دون أن تشعر فقط من أجل أن تنال شرف ورضا من تنتمي إليهم،... هؤلاء الناس الطيبون هم أول من سيحملون جنازتك، ويواسون أهلك، ويحزنون من حزنهم على فراقك. كيف لا؟ وهم من جمعتكم السنون في السراء والضراء في الماضي! وهم من تقاسمت معهم لقمة العيش، ليس من السهولة أن تنسينا الدنيا عن بعضنا البعض. قال تعالى: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُو " (الحديد: 20).
ماذا يريد الإنسان بعد أن جاوز الستين من عمره؟ إن لم يتب ويكفر عن سيئاته، ويتفرغ ما تبقى له من عمر لأهله وخدمة مجتمعه،... وهو يتمتع بما أعطاه الله من صحة وعافية؛ متى سيوفي أهله وجماعته حقهم؟ هل عندما يكون على فراش الموت؟ لذا شعرت أن لا مكانة لي في مسقط، مكانٌ ألت إليه ولم أُل منه. فاتخذت قرار وجهتي - إلى إبراء.
فقرار انتقالي إلى إبراء بعد التقاعد في نظري كان صائباً، ولو أنه كان هناك تحفظ من أسرتي، إذ لم يعد يربطني عمل رسمي في مسقط بعد أن تقاعدت، ولم يكن أحد متفرغاً لي من الأسرة، الكل مُنشغل في مصلحته، لماذا أبقى محبوساً في البيت كالعجوز التي لا حول لها ولا قوة وأنا مكبل بديون بنكية؛ أثر التقاعد الإجباري المبكر بسبب الخصخصة؟ فاجتذبتني الذكريات والحنين إلى الماضي... على الأقل أونس أبي في إبراء والذي هو الآخر ظل وحيداً فيها، من أجل جماعته.
في إبراء؛ كان لي في كل زاوية ذكرى، جدرانها، وسككها، ومزارعها، وبيوتها الطينية التي أصبحت أطلالاً كنت أتوق شوقاً وحناناً إلى عبق الماضي التليد، بعد أن عدت إليها بخفي حنين. ماذا استفدت من تلك الغربة عدا المظاهر الكذابة، ومخالطة المغتربين العجم؛ الذين لم يبقوا لنا صغيرة أو كبيرة إلا وشاركونا فيها، كل هذا بسبب مَن؟ بعض... إخواننا قُصَار النظر.
وقد سردت تفاصيل كفاحي في هذا الموقع وكيف تخلصت من ديوني البنكية ورفعتها عن كاهلي بعد أن أرهقتني السنين، حتى أنخت كما ينوخ البعير الهالك؛ عدت الى قريتي لعلني أجد ضالتي وأعوض ما فاتني من صحبة جماعتي؛ إلا أني وجدتهم يغادرون هذه الدنيا، الواحد تلو الآخر لقد فاتني القطار. وأتساءل أحياناً عن من هاجر من سكان قريتي إلى مسقط؟ ماذا أعطى هؤلاء لهذه القرية من وقتهم واهتمامهم؟ عدا أنهم يأتون إليها كالغرباء في المناسبات سُويعات قليلة ثم يغادرونها كمن يعاود مريضاً في مستشفى...
قد أكون مخطئاً في تصوري ولكن هذه هي الحقيقة في نظري الشخصي وهي الوفاء تجاه من أحتضنك في صغرك، مسقط وإبراء، لا شك أنهما وجهان لعملة واحدة لا فرق بينهما، كليهما عُمان ولكن كما يقال "الأقربون أولى بالمعروف"؟
تخيل لوكأن كل واحد من سكان إبراء اهتم ببناء بيته الذي ورثه من أهله؛ وسكنه حتى في المناسبات لتعمرت القرية بأكملها ـ مساجدها ومدارسها لتحفيظ القرآن، ومجالسها العامة. ولأحيا تراث ألأجداد الذي اندثر، ولكن "للأسف ليس ما كل ما يطلبه المرء يدركه..." وعندما أزور القناطر والحجرة (المنطقة التي بها بيوت الطين جنوب جامع القناطر) أشعر بالأسى على ما فات عليها من ترميم،هذه المنطقة التي كانت في الماضي مركزاً لأفخاذ الحرث هكذا ماتت مع أصحابها.
بين فترة أخرى تسوقني الرياح إلى هناك أجوب السكك؛... من سكة إلى سكة أتفقد تلك البيوت الطينية والجصية المتراصة والملتصقة الجدران، لا يوجد فاصل بين جدران بيوت الجيران، البيوت معظمها في أسطر على سكة مشتركة أمام مداخلها الخارجية. أتعجب من هندسة بناء تلك البيوت، وكيف تشترك بالداخل في مقاطعها إذ جميعها تشترك في التفاصيل فتجد الدهريز مثلاً (دهليز) عند المدخل؛ أمام غرف النوم أو (الصفيف كما كنا نعرفها)، وتجد أيضاً عَقَد الدرج (فتحة مقوسة) يعلق فيها الجحال شمال أو في جنوب الدهليز تحت الدرج، (والجحال هي جرار ماء - قوارير ماء الشرب، مصنوعة من الفخار) يعلوها الدرج... الذي يؤدي إلى السطح أو الطابق العلوي.
معظم هذه البيوت تتكون من غرفة نوم واحدة’ أوغرفتين على الأكثر، بأبواب من خشب الصلب متقنة الصنع، بها نقوش محفورة على أعمدة ملتقى الفرد، أو مسامير مدببة مصفوفة في الفرد وحلقات لطرق الزوار.
مدخل الغرف من الدهليز، وبداخل الغرف عدد من الروازن (كوة غير النافذة - فتحات صغيرة مقوسة على جدار الغرفة أو الدهليز) تستخدم كرفوف تصف فيها الصحون أو الأواني الصينية ومقتنيات المرأة،... هذه البيوت تعكس مدى تقارب الناس ببعضها، إذ أن هندسة بنائها توحي كأنها بيت واحد من طابق أو طابقين ومداخله من السكة الخارجية.
ونجد أيضاً على جدران الدهليز والغرف أو تاداً من أعواد الشجر أو أحجاراً مخروطية الشكل مرزوزة على الجدران، وتستخدم هذه الأوتاد كمعاليق يعلق عليها فراش النوم داخل الغرف، والأسلحة أو الأدوات أو كل ما يراد به أن (يُطنف) عن العبث في الدهليز.
هذه البيوت وغيرها من البيوت في إبراء يأوي إليها أصحابها وقت المساء، وفي فصل الشتاء، أما غير فصل الشتاء فيقضون النهار في المزارع وفي الليل ينامون في الوادي هرباً من البعوض والحر، إذا كانت المزرعة تعني للعماني كل الشيء، فتراه شديد الاهتمام بها ونادراً ما تجد الرجل يقضي وقته في البيت لضيق مساحته وحتى يفسح المجال أيضا للنساء لأخذ راحتهن في البيت، أما هو فتجده بالصباح في المزرعة وبعد صلاة الظهر مع جماعته (قبيلته) في السبلة، وبعد صلاة العصر في السوق، وأخيراً بعد تناول العشاء. بعد المغرب يقضي الرمسة مع أصدقائه في الوادي حتى صلاة العشاء. هذه الحياة التي عهدتها في الستينات من القرن الماضي، ولربما سبب تراص البيوت ببعضها في بعض القرى يعود لضيق المساحة خاصة تلك التي تقع على سفوح الجبال أوعلى ضفاف الأودية. ويجب أن لا يفوتني هنا ذكر دور المرأة واخلاصها لزوجها وفي الحفاظ على بيتها وخدمة زوجها فهي تكاد تعمل كل شيء دون كلل أو ملل فبالإضافة إلى عملها في البيت تجدها في المزرعة لمعاونة الزوج في عمله والأرملة الشغولة يتنافس عليها الرجال لخطبتها بعد انقضاء عدة وفاة زوجها.
على كل حال حتى لا أخرج عن اطار الموضوع، فإن المتفحص لأبواب تلك البيوت ونوافذها لا شك أنه سيعرف مصدر جلبها، إذ كانت من جزر شرق أفريقيا والتي هي مصنع خشب لمعظم بيوت عُمان الراقية، فالأبواب والنوافذ تحمل عبر سفن شراعية إلى ميناء صور بالنسبة لجنوب وشمال الشرقية ومنها تحمل على الجمال إلى الجهة المراد بها على سبيل المثال هنا إبراء.
هذه البيوت جديرة بالاهتمام؛ للدراسة من قبل الاختصاصيين الاجتماعيين لمعرفة الحياة الاجتماعية في حارات القرى بإبراء في الماضي. في الحقيقة يشدني فضول الذهاب بين فترة وأخرى لزيارة تلك الأحياء بقرى القناطر والمنزفة، والسبب أن أزقتها وسككها في الماضي كانت ممراً لي كلما أتيحت لي فرصة الذهاب إلى السوق القديم - سوق الحرث، أو الخروج في الفسحة عندما كنت تلميذاً بجامع القناطر، وأتذكر جيداً المرحوم العم هلال بن سيف بن محمد العيسري عندما كنت أبتاع من دكانه المتواضع الكراسات والأقلام الجافة في منتصف الستينات، فدكانه يقع على مرتفع في زاوية مبنى من الجص على السكة التي تؤدي إلى الدروازة ثلاثية الاتجاه جنوباً، شرقاً وغرباً، في الشرق الاتجاه إلى السوق، وفي الغرب الاتجاه إلى سبلة الحرث، أو إلى الوادي الذي تؤدى فيه صلاة العيدين.
سبحان الله - بعض الشخصيات تعلق في الذهن حتى لو مضى عليها دهر من الزمن، ربما بسبب حسن المعاملة واللطف كشخصية المرحوم العم/ هلال، وكنت أتعامل أيضاً مع أخيه المرحوم/عامر الذي كان يمتلك دكاناً على الزاوية الشمالية من مدخل السوق القديم، حيث كنت أبتاع معظم ما يطلب مني إحضاره للبيت وعندما انتقلت إلى مسقط بسبب ظروف عمل أبي في الجيش ارتبطت أسرتي بأسر أخويهما محمد وأحمد اللذين كانا يمتلكان دكاناً بمطرح، يمونان بهما تجار إبراء بالسلع كالأرز والمواد الغذائية المعلبة، كما كان لديهما أيضاً سيارة نقل (شاحنة) تنقل البضائع بين مسقط وإبراء. نمت الصداقة بين الأسر وأصبح المرحوم العم/ محمد بن سيف من أقرب المقربين لأبى واشتركا في تقديم كثير من الخدمات التطوعية الاجتماعية من أجل سكان إبراء.
هناك أصدقاء آخرون مقربون لدى أبى ذكرتهم في مقالة سابقة في هذا الموقع بعنوان "بعض الوفاء لأهل الوفاء" اشتركوا معه في خدمة الولاية وللنهوض بها اقتصادياً عندما كانت مهمشة إعلامياً في بداية السبعينات حتى أوائل الثمانينات بالرغم من أن الولاية تاريخها عريق غني عن التعريف، لا يمكن تهميش مساهمة أهلها في نقل الحضارة العربية والإسلامية إلى شرق إفريقيا، ولا غريب إن سمعت بعض القدامى من سكان إبراء يتحدث اللغة السواحيلية أو يستخدم بعض المصطلحات باللغة الفرنسية عند حديثه بالعربية.
في الواقع كثير من أهالي سفالة إبراء أقارب خاصة السناويين والمطاوقة (الطوقيين) والعاسرة (العيسريين) وطدت علاقتهم الغربة في أفريقيا وتصاهروا فمثلاً أم جدي صالح وأخيه حمد وأخواتهما نصرى وشمسه أمهم طوقية، وأخوهم منصور أمه مرهوبية وأختهم سلمى والدها عيسري، وجد والدتي طوقي، ووالدة جدتي صفية أم والدي شقصية وهكذا... تجد معظم أفخاذ قبيلة الحرث بينهم نسب بالمصاهرة.
هناك مقولة تقال "لا يحك ظهرك إلا ظفرك" هذا التراث الأهلي العظيم إن لم يهتم به أصحابه؛ فلا ينتظر أهله من الحكومة أن تقول لهم ماذا يعملون وكيف يعملون؟ أو أن تتبنى الحكومة ترميمه نيابة عنهم ؛ فالحكومة لديها أولويات، هذه بيوت أهلية.
على كل حال؛... كما شيدنا بيوتنا في مسقط لما لا نهتم ببيوت ورثناها من أهلنا في قرانا؟ فخدمات الحكومة ستتأتي تباعاً لا محالة فيما بعد، فالحكومة لا تعمر خِرَب مهجورة من قبل أهلها وهم أحياء. وهذا الكلام ينطبق أيضاً على أهلي بسيح العافية، والسباخ وبقية القرى التي بها البيوت القديمة.
وجودي في إبراء خمسة أيام أو ستة أيام في الأسبوع يريحني كثيراً عن مجابهة تلك الحالات في مسقط، وأشعر بسعادة عارمة عندما أكون في إبراء خاصة عندما أتجه ظهر كل جمعة مشياً على الأقدام إلى مسجد الجامع (كما كان يعرف جامع القناطر بهذا الاسم قديماً). لربما كان الأوحد في منطقة السفالة بقرية القناطر (المنطقة التي احتضنت جميع أفخاذ الحرث) في الماضي قبل أن تتشعب.
المشي على الأقدام رياضة ممتعة يغَيِب الهموم ولا يكلف المرء شيئاً، وفيه أجر عظيم، إذا ما سعي به لعمل الخير واتجه به إلى دار العبادة، و متعة المشي أكثر في فصل الشتاء، وشخصياً أفضل الذهاب إلى المساجد مشياً على الأقدام حتى عندما تكون عندي سيارة
فالإنسان عندما يكبر في السن يحن إلى ماضيه، ويفتش على ما تبقى من أصدقاء طفولته، لعله ينسي هجران أبنائه له، ويخفف من آلام أمراضه المزمنة، أو حتى لا يجلس يتأسى على حياته التي ضاعت سدى، على كل حال بعض الأحيان الابتعاد عن الذي لا تتساوى معه معيشياَ أفضل، إذ لكل شخص فلسفته في الحياة والذي قد تراه صحيحاً قد يكون مع غيرك خطأ، الناس في عصرنا الحاضر أصبحوا ماديين وتسير حياتهم التكنولوجيا، لا يمكن تغيير سلوك الناس وقد فرضت على حياتهم الافتراضيات (الموبايل - و السوشيل ميديا). حيث غيرت كثيراً من العادات والتقاليد.
- عبد الله السناوي - شارك
-