1. العماني- والوافدين

      يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ" الانشقاق6

      لا أعتقد هناك مواطناً في الوطن العربي يحب بلده كحب العماني لبلده، وأعني هنا الحب الحقيقي؛ الولاء والانتماء بمعنى الكلمة في السراء والضراء،... حتى عندما كانت الأوضاع سيئة في عمان قبل عام السبعين، هناك ثلاَثة أشياء كان لا يرضى العماني المساس بها (الدين- الوطن- السلطان). وكنا نسمع حكايات كثيرة من العمانيين العائدين إلى الوطن بأن الأخوة في دول الخليج في حقبة الستينات كانوا يستغربون في حب العماني لبلده، وعندما كانت تحدث مشادات كلامية بين بعض الطوائف في إحدى دول الخليج، والعمالة العمانية تسيء لعمان أو لسلطانها؛ فأن المسألة تنقلب إلى شجار،... بسبب الاحتكاك والتنافس في العمل، خاصةً عندما يرون العماني يكد في طلب الرزق غير مبالٍ برفاهية الحياة، بالرغم من كل المغريات التي كانت متوفرة في ذلك الوقت والتي من الصعب التنحي عنها، لأن مثلث أضلاع الولاء والانتماء لدى العماني لوطنه؛ كان هو أساس عزمه وقوته، لا يحيده شيء عن الهدف الذي تغرب من أجله.

      معظم العمانيين الذين اغتربوا في ذلك الوقت إلى دول الخليج اشتغلوا في الأعمال الشاقة، وهم قد أتوا من داخلية عمان وبالذات من محافظات الشرقية والداخلية. كان هؤلاء من فئة المزارعين الذين اعتادوا على أعمال الحفر وحمل الحجارة ونقل الأتربة، فكان من السهل عليهم استيعاب مثل هذه الأعمال في الخارج . بالرغم من اشتغال العماني في هذه المهن إلا أنه متعلم...درس في مدارس تحفيظ القرآن التقليدية. كثير من العمانيين إن لم يكن جلهم لديهم إلمام بالقراءة والكتابة، إذ إن من واجب الأب في الماضي أن يلحق ابنه بمدرسة القرآن الكريم في القرية؛ لكي يتعلم أمور دينه، ومن ثم يستعين به في المزرعة، والبنت أيضاً بعد تعليمها تساعد أمها في البيت إلى أن يشاء الله لها الزواج.

      ومنهم من يكمل تعليمه في دراسة اللغة العربية بجامع القرية، وكان جامع نزوى بمحافظة الداخلية في الحقب الماضية قبل السبعينات يعتبر جامع الجوامع في تخريج العلماء، ومن أراد فيما بعد أن يستزيد من العلم سافر إلى زنجبار (شرق أفريقيا)، إذ كانت زنجبار إبان الحكم العماني مرفد العلوم للعمانيين بحكم تقدمها ووجود الوسائل التعليمية الحديثة بسبب اتصالها ببعض البلدان العربية المتقدمة آنذاك؛ كمصر مثلاً، وسوريا والعراق، فمعظم علماء عمان الذين برزوا في العلوم الإسلامية وفي اللغة العربية والأدب هم ممن درسوا في زنجبار.

      وإن جاز لي التشبيه فزنجبار كانت حتى منتصف الستينات أندلس العمانيين وجد العمانيون فيها كل السبل متاحة لنشر ثقافتهم العربية والإسلامية ومن هناك صدورها إلى البر الأفريقي (تنزانيا) ومنها إلى بقية الدول المجاورة كاوغندا وبورندي ورواندا والكنغو. وإلى يومنا هذا مازال عدد كبير من الجاليات العمانية تعيش هناك، استوطنت، ولكنها لم تنقطع عن البلد الأم عمان، وفي عهدنا الحاضر نمت علاقة وطيدة بين هذه الدول و عمان وبشكل مضطرد بسبب العلاقات التاريخية التي تربط هذه الدول بعمان.

      يلَحظ أكثر المهاجرين إلى شرق أفريقيا هم من المحافظات الداخلية في عمان )الداخلية وشمال الشرقية وجنوب الباطنة(، وعدد قليل من بلدان الساحل كشمال الباطنة وجنوب الشرقية، فبعض سكان هاتين المحافظين كانوا يعملون بالسفن الشراعية ينقلون الركاب والبضائع من مواني الساحل كصحار بالنسبة لشمال الباطنة وبركاء لجنوب الباطنة والداخلية، وصور بالنسبة لجنوب وشمال الشرقية.

      توالت الهجرات إلى بلدان شرق أفريقيا بعد أن دب الخلاف على السلطة بين أفراد العائلة الحاكمة في زنجبار وعمان. كما أن حكم الإْمامة في داخلية عمان شجع كثير من العمانيين على الهجرة إلى بلدان شرق أفريقيا، خاصة من فئة العلماء والتجار والمزارعين وذلك عندما ضاقت بهم سبل العيش في عُمان أثر اشتداد الحصار وفرض الضرائب على منتجاتهم الزراعية إبان الصراع بين النظامين؛ السلطنة بقيادة تركي بن سعيد بن سلطان، ونظام الإْمامة بقيادة عزان بن قيس بن عزان خاصة في الحقبة التي بين حكم السيد تركي وحفيد ابنه فيصل: (السيد سعيد بن تيمور بن فيصل) 1870-1970م، وتدخل الإنجليز في أمور الدولة، وفرض الحماية على عُمان أسوة بدول ساحل الخليج، التي أرغِم السيد فيصل بتوقيع المعاهدة عام 1891م تحت التهديد مثلما حدث لزنجبار بعد فصلها عن عُمان عام 1961م، (المصدر كتاب عُمان الديمقراطية الإسلامية ـ حسين غباش).

      هجرة العمانيين إلى شرق أفريقيا ساعدت اقتصاد عُمان بشكل كبير والذي كان يعتمد على دخل الضرائب (بما يعرف بالعُشور)، وكمثال بسيط على ذلك؛ معظم القلاع والحصون والبيوت التي شيدت بالحصى والجص، وأبوابها وشبابيكها عندنا في إبراء، والولايات المجاورة؛ هي من الريع الذي أتى من زنجبار، والذي ساهم في خلق أيدي عمانية ماهرة شيدت هذه البيوت.

      ومن جزيرة زنجبار توسعت هجرات العمانيين إلى البر الأفريقي؛ إلى الدول المجاورة: (تنزانيا - كنيا ـ أوغندا ـ رواندا - بورندي والكنغو). هاتان الدولتان الأخيرتان كانتا تابعتين للكنغو إبان الاستعمار البلجيكي.

      الهجرات العمانية إلى دول شرق أفريقيا كما ذكرت وصنفتها حسب معرفتي الشخصية هي ثلاث فئات: فئة العلماء والمزارعين والتجار، ففئة العلماء والمزارعين استقرتا في زنجبار، كون زنجبار كانت العاصمة التجارية لعمان في وقت من الأوقات في عهد الدولة البوسعيدية، لذلك كانت الوسائل اللازمة للتعليم متوفرة، نظراً لعلاقة زنجبار مع بعض الدول العربية كمصر، وسوريا والعراق، وربما بعض دول المغرب العربي. لذا نرى معظم علماء عمان الذين برزوا في علوم الدين الإسلامي واللغة العربية في عهد الدولة البوسعيدية وعهد صاحب الجلالة السلطان قابوس وهم ممن تتلمذوا في زنجبار.

      أما فئة التجار فقد استقر بهم الحال في أوغندا وبوروندي ورواندا، وبعض المزارعين استقروا في تنزانيا، وكان ذلك العدد الأكبر بحكم مساحة البلد وتنوع تضاريسها. وفي أفريقيا خرجت فئة أخرى؛ فئة رابعة - من أبناء المهاجرين العمانيين هناك وهم فئة الخدمات (الميكانيكية، والسياقة) الذين يعملون في إصلاح السيارات والنقل البري نقل الركاب والبضائع بين الدول التي سبق ذكرها، تماماً كإخواننا الباكستانيين الذين استحوذوا على حرفة نقل البضائع بين عمان ودولة الإمارات العربية، باستثناء زنجبار وكينيا ـ ممباسا، والجزء الساحلي من تنزانيا؛ الذي يتم النقل فيه بواسطة السفن الشراعية... والفئة التي عملت في هذه الحرفة هم من أهل الساحل في عمان؛ أهل جنوب الشرقية (صور وشمال الباطنة) وربما مسندم، حيث هم الذين وصلت سفنهم كما نعلم إلى الهند والصين.

      والذين يعملون في حرفة التجارة هم نوعان: تاجر متجول (بياع) يتاجر في الذهب والفضة والعاج والأقمشة التي تأتي من الهند عبر السفن العمانية، عابرة مينائي ممباسا بكنيا، ودار السلام بتنزانيا. والتاجر الآخر هو تاجر ثابت؛ لديه محل تجاري يبيع بالتجزئة كالمحال التجارية عندنا في عمان، مع زيادة بعض الشيء في القرى، وأذكر دكان أبي وجدي في بلدة موينجا بجمهورية بوروندي يحتوي على الأقمشة والمواد الغذائية الجافة بالإضافة إلي بيع وقود السيارات: البنزين ووقود الإضاءة الكيروسين.

      وأهم المواسم التي يحرص عليها تجار بورندي هي مواسم بن القهوة، والقطن. وفي أحايين كثيرة يتم التعامل مع المحليين أهل القرى بالمقايضة، بسبب عدم معرفتهم استخدام النقود الورقية، هذا الكلام في الخمسينات من القرن الماضي. التجارة عند العمانيين في أفريقيا تجارة تكافلية، كل يعضد الآخر، ليس كما في وقتنا الحاضر في عمان يأتي أخوك بأسيوي لينافسك. لذا التجارة والنقل من أبرز الحرف التي مارسها العماني في البلدان الناطقة بالفرنسية (رواندا، بورندي والكنغو) وفي البلدان الناطقة بالإنجليزية (أوغندا، كنيا وتنزانيا)، لذا يحرص العمانيون على تعليم أبنائهم القرآن الكريم، ومن بعده تعليمهم في المدارس الأجنبية حسب المستوى والوضع التعليمي في البلدة.

      وقد رأينا ثمرات هذا التعليم أتت أكله عندما ملأ أبناء العمانيين العائدين إلى الوطن الشواغر الوظيفية التي كانت في البنوك وشركات البترول في السبعينات قبل الاستعانة بالهنود وغيرهم من العمالة رخيصة التكاليف...التي ملأت البلد بعد ذلك. أذكر في حقبة السبعينات كان العماني العائد من أفريقيا يفك مكائن السيارات بشتى أنواعها ويركبها بعد إصلاحها دون وسواس...وتحت ظل شجر السمر في ضواحي مدينة مسقط، واثق من نفسه ومن خبرته، وكان يقصده القاصي والداني؛ قبل أن تنتشر الجراجات وتمتليء بالعمالة الوافدة. وعندما نُوفِسَ بهذه العمالة من قبل إخوانه اضطر أن يرحل ويهاجر وينقل خبرته إلى دول مجاورة لكي يعيش.

      أنا أعلم إن الإنسان عندما يريد تحقيق شيء أو غاية ما، لا بد له أن يخطط لها التخطيط السليم، ويشمل ذلك جميع الجوانب المالية والإدارية، السلبية والإيجابية أو الجدوى الاقتصادية، والتحديات، التي قد تعرقل التنفيذ أو تبطئه، حتى لو كان ذلك على مستوى الفرد. والحمد الله لقد بذلت حكومتنا الرشيدة جهداً كبيراً في تنفيذ البرامج التنموية، وتوفير البنية الأساسية من طرق وإسكان وكهرباء ومياه، وموانيء بحرية وجوية، نقل واتصالات، خدمات صحية وتعليمية وأمنية. امتدت تلك البرامج كافة ربوع عمان بالرغم من صعوبة تضاريسها الجغرافية، وتأسست في عمان دولة قوية متحضرة اكتسبت احترام المجتمع الدولي وحكومات الدول الكبرى المتقدمة، إذ أصبحت عمان مزاراً للسياح، ومن يزر عمان الآن لن يصدق بأن هذا كله تم خلال خمسة وأربعين سنة والفضل يعود بعد الله سبحانه وتعالى على قائد البلاد المفدى حفظه الله وأدام له الصحة والعافية، الذي وهب نفسه في خدمة بلاده، والإشراف المباشر منه في تنفيذ تلك البرامج، وبسبب أيضاً حب العمانيين لقائدهم الذي وحد البلاد وجعل لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى.

      ولكن، في بعض الأمور، بعد أن تجاوزنا مرحلة التأسيس علينا أن نضع بعض النقاط على الحروف خاصة بما يتعلق بالموارد البشرية، وأن نستغل ثمرة التعليم، وأن لا نضيعها سدى، بعد أن صرفت مبالغ طائلة في تنمية الموارد البشرية وتدريبها، علينا أن نضع العماني في المكان المناسب، والمخصصات المالية التي رصدت لدعم العماني من أجل توظيف الذات؛ يجب ألا تستغل من قبل بعض عديمي الضمير؛ يأخذ الدعم ويبحث عن وافد ليستثمره في مشاريع لا يستفيد من ريعها أخوه ولا بلده، مجرد اسم ورقم، ويغطي نجاح هذا الدعم بحماس إعلامي. لا يعقل أن نجهل مواطناً درس الميكانيكا والكهرباء، أو فنياً في مهن مختلفة يحمل شهادة علمية من كلية صرفت عليها مبالغ، وتسرحه في السوق هكذا...ليبحث عن عمل، بينما هناك عقبة تعرقله عن الحصول على عمل، بسبب عدم تفعيل النظام الرقابي على العمالة الوافدة بالشكل الدقيق.

      كل الحرف المهنية التي تمارس من قبل الوافدين الأسيويين تعلموها بالممارسة هنا في عمان، وأهمها: الحدادة - صناعة الألمنيوم من شبابيك وأبواب ـ النجارة - الكهرباء بشتى أنواعها (التمديدات الكهربائية للمباني والضغط العالي، كهرباء إصلاح الأجهزة المنزلية)، فني أجهزة الكترونية...هواتف وغيرها، بالإضافة إلى ميكانيكا السيارات، و...وغير ذلك من المهن التي يستوجب ممارستها من قبل حملة الشهادات الفنية. هل سأل أحد هؤلاء الوافدين عن شهاداتهم الفنية؟ أم أن السلامة والجودة، واحترام المهنة ليست مهمة بالنسبة للدولة؟ ألا توجد مادة في قانون حماية المستهلك أو في المعايير والمقاييس، أو حتى في الدفاع المدني تحمي العماني؟ بعهدي قوانين عُمان من أفضل القوانين في دول مجلس التعاون أو ربما حتى على مستوى الوطن العربي... لكن تنفيذها يبدو اتكالياً، وإذا كانت وزارة القوى العاملة تصدر التراخيص لاستقدام العمالة الوافدة. إذن على الجهات المختصة الأخرى معاونتها في التأكد من المؤهلات لتلك المهن، ليس الخياط يشتغل كهربائياً، وعامل النظافة يعمل سباكاً في المساء.

      تزايد الطلبات على استجلاب عمالة وافدة لمهن معينة؛ يجب أن يلفت نظر الوزارة المختصة؟ فالمسألة ليست بذلك التعقيد، الجانب الإعلامي يجب عليه أيضاً أن يهتم بالتوعية عن سلبيات استقدام العمالة غير الضرورية، بدلاً من ضياع الوقت في المجاملات والتحميس. كيف لنا أن نقول لباحث عن عمل "اذهب واشتغل في أي شيء، بدلاً من أن تكون عاطلاً،... أبوك كان كذا وكذا...وجدك كان كذا..وكذا، لا تترفع عن عمل". ماذا يقصد من هذا النشيد الحماسي؟ هل يعني خريج الكليات؛ يشتغل منظف سيارات؟ بينما الوافد يتربع على أفضل المهن في بلادنا دون مؤهل؟ أي تخطيط موارد بشرية هذا؟ "إذا كان المتحدث مجنون فالمستمع عاقل" ...أم أو أب شد على بطنه سنين من أجل تعليم ابنه، أيتقبل في النهاية أن يعمل ابنه بائع غاز؟ أو سائق أجرة؟ حتى هذه المهنة الأخيرة تشبعت، فأصبح المتقاعد من الشرطة يشتغل سائقاً، والمتقاعد من الجيش يشتغل سائقاً، ومن ليس لديه عمل يشتغل سائقاً، موظف القطاع العام أو الخاص أيضاً يشتغل سائقاً بعد الدوام . مع الأسف حتى سياقة الشاحنات الكبيرة أو القاطرات والصهاريج (التريلات) ً في يد الأجانب، ماذا بيَدَ المواطن العماني من نصيب في القطاع الخاص عدا الفتات.

      أن تزايد عدد العمالة الوافدة في البلد قد يغير من التركيبة السكانية، إذ بلغت نسبة الوافدين حتى الآن 44% من أجمالي العدد البالغ أربعة ملايين نسمة. ثلثي هذه النسبة من البنجال والهنود، الذي يشغل العدد الأكبر منهم في المهن التي سبق ذكرها.على الحكومة أن تدرس الجوانب السلبية من هذا التزايد، أصبح عدد هؤلاء الأجانب مساوياً لعددنا تقريباً حتى أنهم فتحوا أسوق خاصة بهم بمسميات مختلفة لتسويق منتجات بلدانهم، وأصبح الوافد يتمتع بمعظم الامتيازات التي خصصت للعماني تحت بنود قوانين وبمسميات مختلفة؛ مستثمر، شريك... إلى غير ذلك حتى الأراضي أصبحت تُمَلك لهم، هذا ناهيك عن عمالة إخواننا بمجلس التعاون الذين وسعنا لهم في بلادنا. يا ترى ما مصير العماني؟ لا نحتاج إلى كل هذا؛ إذ أن عددنا لا يتجاوز المليونين والربع، دون الأجانب بالتالي الدخل الذي يأتينا من مواردنا الطبيعية واستثماراتنا يكفينا؛ بدلاً أن نصبح في المستقبل محافظة من محافظات الهند

       

      1. عبد الله السناوي - شارك