-
-
إبراء السفالة ج7 الظروف المعيشة في السابق (1)
منهج التعليم
درست نفس منهج التعليم الذي كان في جيل والدي، يبدأ تعليمنا في سن مبكرة قبل سن السابعة سن تعليم الصلاة، ربما كان قبل ذلك بعام أو بعامين.
نبدأ بحفظ بعض الآيات وقصار السور البسيطة التي يمكن حفظها دون أن ندرك معانيها. هكذا بالتدرج حتى أن نحفظ أكبر عدد من السور، والمعيار يعود على المعلم.
فكلما كان المعلم جيد المزاج حفظنا أكثر، وإذا تعكر مزاجه نكون أبطأ في الحفظ، ويأمرنا المعلم بأن نقرأ بصوت عالٍ حتى يساعدنا في الحفظ، ربما من كان لديه الشقيقة من أهلنا في ذلك الوقت (الصداع النصفي) بلا شك فإنه لن يقترب من جدار المدرسة من كثرة الصراخ.
منهج دراستنا يبدأ من مدرسة القرآنوبعد أن نختم القرآن يلتحق البعض منا بالجامع لدراسة النحو وعلوم الدين، ومن لا تسمح له ظروفه المعيشية لمتابعة التعلم من أسرة فقيرة فإنه يتفرغ لمعاونة أبيه في المزرعة.
الإنسان العماني متدين بالفطرة، لذا نراه حريصاً على تعليم أبنائه الدين الإسلامي، لأنه يعلم أن الإسلام دين الرحمة ودين الخلق، (إنما الأمم الأخلاق...) كما قال الشاعر، فالأخلاق الحسنة تخلق مجتمعات حسنة. على هذا الأساس كانت تربيتنا في القرية، لأن الظروف كانت صعبة تتطلب منا التكاتف والتكافل والعيش في وئام ونبذ الخصام، الجار مسئول عن جاره، وكل رجل يكبرنا سناً فهو أبونا، وكل امرأة تكبرنا سناً فهي أمنا نخدمها بأعيننا أكثر من أبنائها. المعيشة صعبة، نعيش في بيوت من طين مكونة من صفة ودهريز(دهليز) أرضيتها التراب، وفي ليالي الصيف ننام في الحوش (فناء البيت) على (دعون) صنعناها بأيدينا من سعف النخيل، نغتسل من الفلج نأكل وننام على الأرض مفترشين الحصر من صنع أيدينا. نطبخ طعامنا المتواضع في قدور من الفخار قبل أن تأتينا ألأواني المعدنية من إيران والهند، نتنقل على البغال ومن يملك حماراً كأنه يملك "تويوتا هيلكس" معظمنا يمشي حافي القدمين، لا نعرف الفازلين Vaseline ولا غيره، تتشقق أقدامنا من جراء المشي حفاة في التراب في أزقة الحارة، إذ كنا نمشي كما نشاء، بينما أخواننا في أفريقيا ينعمون بالحياة الحديثة في ذلك الوقت من كهرباء وسيارات، يجلسون على الكراسي، وينامون على أسرة ناعمة، ونحن تحت حكم أسرة واحدة، تعشر منتجاتنا الزراعية عندما تدخل مسقط، ندفع أضعاف الضرائب في جمرك حلة السد بروي،،،تفرقنا لماذا؟ كل هذا بسبب خلاف فكري وصراع على خلافة الأرض بين متشدد، وميسر، و معاند ومسهل في البلاد"نزاع لا لنا ناقة فيه ولا جمل"غير مدركين بأن خلافة الأرض لله "وكل من عليها فان" ما ذا نفعل سوى أن نركب الأهوال و نشق عباب البحار لعل الله يجعل لنا مخرجاً. إذاً لا ريب، إن قسا علينا أهلنا في تربيتنا، لا شك لتلك القسوة مبرراتها، وكما يقال فإن:"الشدائد تصنع الرجال".
التأديب والتهذيب
نرى الآباء والمربين من الأهلين وغيرهم يبسطون مبادئ الأخلاق التي نادي بها الإسلام، يزودون بها الأبناء لينشئوا على المكارم والفضائل، "ومن شب على شيء شاب عليه".
فإذا كان برنامج DOS في التقنيات هو أساس تشغيل الحاسب الآلي، ففي نظري أؤمن بأن القرآن هو المنهج المسير في حياة الإنسان، وإذا كان التدريب صارماً من قبل أهلنا في الماضي فهم قد أنتجوا شعباً جيداً، أسس إمبراطورية عظمى ساهمت في نقل حضارة الإسلام إلى شتى بقاع الأرض، وكلنا نعلمها... فالقائد النازي الألماني "هتلر" لولا صرامته في تدريب جنوده، وانضباطهم لما استطاع احتلال نصف بقاع العالم. بقي أن أقول "لكل دهر صرفه" لكل دهر أسلوبه وأدواته في التعامل.
في بداية تعليمنا في الماضي نهاية الخمسينات وبداية الستينات في القرية كنا نستخدم كتف الجمل وقلم الحلف بمخار السدر لتعلم الكتابة، والبديل في وقتنا الحاضر هو السبورة البيضاء والقلم "الماركر". لم نكن نعرف قلم الحبر الجاف إلا في الستينات، و كنا نقيس الوقت في الماضي بظل خشبة وبواسطة حسبة النجوم بنظام الفلك، لم تكن الساعة منتشر استخدامها كما هو الآن. أذكر عندما بدأ الناس يقتنون ساعات اليد كانوا لا يضعونها على معصم اليد، وفي اعتقادهم بأنه تشبهاً بالنساء (كسوار النساء)؛ لذا توضع على صدر الخنجر بدلاً من اليد.
الصلاة عماد الدين، قال سبحانه وتعالى في سورة النساء 103 (....أن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتاً)، نلتزم بمواقيت الصلاة، ووقت أدائها، ونحدد مواعيدنا بوقتها ونعمل بوقتها ونأكل بوقتها، على سبيل المثال عندما نريد أن نرتبط بميعاد مع أحد نقول له: بعد صلاة كذا....، أو قبل صلاة كذا...، ونأكل قبل صلاة الظهر ونجلس في السبلة بعد صلاة الظهر ونهبط السوق بعد صلاة العصر ونلعب في الوادي قبل صلاة المغرب ونتعشا بعد صلاة المغرب ونرمس بعد وجبة العشاء وننام بعد صلاة العشاء ونفطر بعد صلاة الفجر، هكذا كان نظامنا السابق في القرية.
المواظبة على الصلوات الخمس في المسجد، كانت فرضاً على كل أولاد الحارة، وكبير السن له الحق أن يسأل ويعاقب من يراه من الأولاد قد تخلف عن تأدية الصلاة مع الجماعة في المسجد.
هكذا كان التزام العمانيين بالدين وسبب تلقينه لأولادهم به، وإذا كانت الصلاة لا تلزم الصغير لعدم تكليفه، فإن الإسلام يوجب على ولي الأمر أن يدربه عليها ويأمره بها. أطلعت في أحد الكتب عن عبد الله بن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أولاكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع).
يضرب الطفل تأديباً له على تركه الصلاة، والطفل الذي ينشأ في جو إسلامي ليجد أباه وأمه وإخوته يسارعون إلى أداء الصلوات الخمس في أوقاتها محققين بما جاء في الآية الكريمة السابق ذكرها لا شك فهذا الطفل سيقلد والديه وإخوته في الصلاة، سلوكاً طبيعياً في حياته، وعلينا أن نذكر أولادنا دائماً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين المؤمن والكافر ترك الصلاة) وحديث الرسول صلوات الله و سلامه عليه: ( تارك الصلاة ملعون، وجاره إن رضي عنه على يوم القيامة ملعون). لاشيء يفسد كغفلة الأهل عن مراقبة الأبناء، فخادمة المنزل "الشغالة" لا تربي، خاصة إذا كان الأهل ذاتهم دنيويين ماديين materialistic على قول الانجليز، يعتمدون على المادة في كل شيء لإصلاح أمورهم.
وتحضرني قصة رواها لي أحد الأخوة العرب بأن هناك أسرة عربية صغيرة مكونة من أب وأم وابن، كانت تعيش في أمريكا وعندما بلغ ابنهم سن الصلاة، أخذوا يوقظونه كل صباح ليصلي معهم صلاة الفجر، وذات مرة نعس هذا الطفل في الصف ولم يركز لشرح المعلمة، فلاحظت المعلمة ذلك، وقامت باستلطافه واستدراجه حتى أن حكى لها السبب، وفي الحال رفعت المعلمة شكوى ضد أهله بانتهاكهم حقوق الطفل، وذلك بإزعاجه في نومه وعدم توفير الراحة الكافية له، فهذا هو فهم الثقافة الغربية لما عندنا.
وكان آباؤنا يحرصون على ألا نتخلف عن المسجد في الصباح، والكسول منا سينال نصيبه بركلة أو ركلتين في بطنه من ولي أمره إذا لم يستيقظ، لا يوجد رجاء أو كلام لين، لأن الابن يفترض أنه قد تدرب على كيفية تنظيم وقته، لقد تجاوز سن العاشرة، و بالتالي فإنه من المفترض أن يعتمد على نفسه في كل شيء في نظافته الشخصية وغسل ملابسه وإعانة أبيه أيضاً، لا توجد "شغالة ولا غسالة".
قراءة القرآن في الصباح من الأساسيات عندنا، ومن الواجب الحرص عليها لأننا نستبشر الخير بقراءة القرآن ونسأل الله أن يبسط لنا الرزق ليومنا الذي نعيش فيه، وأذكر كان إمام المسجد يحتجزنا بعد صلاة الفجر لتلاوة القرآن حتى طلوع الشمس وهو الوقت الذي ينتشر فيه الناس لأعمالهم والتلاميذ إلى مدارسهم بعد تناول وجبة الإفطار من السح والقهوة والجمبة أواليمبة (اللبن كما نسميه الآن)، حيث إن أهل المنطقة الشرقية ينطقون حرف الجيم ياءً.
لم نكن نعرف "النقانق وجبن الكرافت".البيض كان يطبخ مع المرق عندما لا يتوفر حلاً غيره للغداء (أي الحلال من اللحم والطيور، أو ربما يقصد اللحم الذي يحلي المرق وتنطق في هذه الحالة "حلى").
وعندما يأتي فصل الصيف يجد الشباب الفرصة من أجل كسب المال بالاعتماد على الذات، أنه من العيب أن يسأل الولد أباه عن مال حتى لو كان يقضي معظم الوقت العمل في مزرعة أبيه، وحق الأب على الابن تهذيبه وتأديبه وتعليمه وتسليبه (يشتري له السلب الخنجر والتفق) وتعليمه المهن ثم تزويجه وبعدها يتقاعد الأب عن العمل ليتفرغ لخدمة المجتمع ويسلم الأب الدفة لولده لقيادة الأسرة إلى بر الأمان.
ومن أساليب التهذيب أن يرافق الابن الأب في زيارة الرحم الذي يحرص عليه كل عماني لأن صلة الرحم من الدين، حيث وردت في كثير من الآيات في سور القرآن الكريم:( في سورة النساء وتكررت في سورة محمد) وهناك أحاديث كثيرة تحث على صلة الرحم وبر الوالدين، إنهما وجهان لعملة واحدة. قرأت في أحد الكتب عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من أحب أن يبسط الله له في رزقه وأن يمد الله في أجله فليبر والديه وليصل رحمه).
ويرافق الابن أباه أيضاً مع الجماعة لتأدية واجب العزاء أو حضور ملكة (عقد قران) داخل الحارة أو خارجها، وعلى الابن أن يتعلم في تلك الحضرة "البرتوكول"بمراقبة كل حركة يشاهدها أثناء الزيارة من استقبال وضيافة وكيفية المناشدة عن العلوم والخبر وأدب الجلوس وأدب محادثة الناس؛ لأن خطأ الابن يحتسب على الأب في تربيته لولده، بل يشمل جماعته أيضاً إذا كان الخطأ كبيراً، لأنه في النهاية ينتسب إلى قبيلة الجماعة ويحمل اسمها.
وكنا ننادي كل من يكبرنا سنا "عمي"، وعندما نصادف أي فرد في الأزقة نلقي عليه السلام، بتحية الإسلام تماماً كما يفعله أخواننا البنجاليون الآن، وإذا صادفنا قدوم ضيف إلى الحارة بمطيته، فأول ما نفعله نرشده إلى المناخ في سبلة القرية ثم نقوم بواجب الضيافة الطارئة له ولمطيته، كتقديم ماء الشربوالتمر والقهوة له، بعدها نبلغ مضيفه بوصول ضيفه، وعلى الضيف أن يتقبل منا ذلك مهما كان صغر سننا، حيث إكرام الضيف من تعاليم الإسلام، ويحضرني في هذه المناسبة حديث قرأتهمنقول عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت).
هكذا... وفي ثلاثة الأيام الأولى من الزيارة يستضاف الضيف لوجبات الطعام الثلاث: (الفطور والغداء والعشاء) من قبل أهل الحارة، وأحيانا حتى رحيله، وطبعاً اغتساله يكون من الفلج والصلاة مع الجماعة في المسجد، والنوم داخل السبلة في فصل الشتاء أوفي مبرزها في فصل الصيف أو في الوادي إذا شاء، "ما في مشكل". هكذا كانت الحياة سهلة وبسيطة.
وعندما يستضاف الضيف لوجبة الغداء على سبيل المثال يقدم له ما تيسر من طعام دون تكليف بسبب ظروف المعيشة، وعادة ما يتوفر في البيت السمك المجفف "العوال" أو السمك المملح (المالح) ربما من سمك التونة (السهوة)، أو الكنعد، أو لحم الطيور من دواجن البيت، وأحياناً لحم مملح من باقي لحم العيد كالمظبي والقلية، أوحتى الشواء بعد تجفيفه، والعمانيون بارعون في طرق حفظ الطعام لعدم توفر الكهرباء.
الوجبة تتكون من الأرز ومرق اللحم في فصل الشتاء، أو من الأرز والسمك بعصارة الليمون والبصل (معصورة)، وفي عصر آبائنا لم يكن يتوفر الأرز، فكان أكلهم من خبز الشعير أو القمح.
يترك الضيف في دهريز البيت يأكل وحده دون أن يشاركه أحد حتى يأخذ راحته فيالأكل، ولكن على الضيف كذلك ألّا يبالغ في الأكل عليه أن يترك لأصحاب البيت، وعندما ينتهي من الأكل عليه أن يرفع صوته بالشكر والدعاء معلناً الانتهاء ليأتيه صاحب البيت. ولكن الوضع يختلف عندما يكون الضيف من الأقارب، فإنه صاحب البيتيشاركه مع أولاده دون النساء.
الحرف التقليدية
وكان أول ما يتعلمه الفرد منا هو كيف يسعف من سعف النخيل خاصة عندما نلتقي في السبلة بعد صلاة الظهر، نتعلم كيف نصنع سلال من سعف النخيل (القفير، المبدع، المخرافة، خسفة جراب السح، السمة، وأقلها تغليفة حلوى)، ومن لا يتقن صنعة واحدة على الأقل فإنه يعاب ويقال عنه بأنه عاطل، مهما كان مركزه الاجتماعي، حيث كان معظم علماء الدين في عمان أصحاب مهن أو عمال (بيادير) يحرثون الأرض ويزرعون الزرع في أموالهم، بلهجتنا يعني (ما غريب تشوفه ينخبر، يرضم، يقرز، ويهيس ويسقي في ماله).
في السابق لا يوجد ترفع عن أدنى الأعمال، ودائماً ما ترى صاحب العلم هادئ الطبع، ومتواضع لأنه واثق من نفسه.
هناك أعمال أخرى غير الزراعة يعمل فيها العماني في القرى، فالبدو مثلاً يربون الأغنام ويبيعون الحطب والفحم (الصخام) وينقلون الأسماك على ظهور الجمال من مناطق الساحل إلى مناطق الحضر، ويعملون في غزل الصوف والمشغولات اليدوية الأخرى المتعلقة بالزينة والملابس، وأيضاً كانوا يربون نحل العسل ويبيعوننا السماد من مخلفات الأغنام للمزارعين وغيرها من الأعمال الصحراوية، وبالمقابل يبتاعون منا التمر ومخلفاته وعلف الحيوانات وسعف النخيل.
ومن الأعمال التي تمارس عندنا النسيج وصياغة الفضيات. أذكر كان عندنا في الحارة شخصان مشهوران في صياغة الفضة والذهب، وأيضاً محل "كارية" آلة نسيج، تنسج بها الوزرة (الإزرة) و الشواذر (غطاء الحريم)..
- عبد الله السناوي - شارك
-