1. إبراء السفالة - ج8 الحياة اليومية (1)

      نظام الأكل في القرية؛

      نظام الأكل عندنا في القرية مرتبط بمواقيت الصلاة، فمثلاً بعد صلاة الفجر، يكون قد حان موعد الإفطار، وعند مطلع الشمس يذهب الناس إلى أعمالهم، وقبل صلاة الظهر عندما تكون الشمس في كبد السماء يحين وقت الغداء، وبعد صلاة الظهر الجلوس في السبلة، وبعد صلاة العصر نهبط إلى السوق لنشتري احتياجاتنا اليومية، وبعد الرجوع من السوق يكون موعد اللعب (الرياضة)، وبعد صلاة المغرب يحين موعد العشاء (بفتح العين)، وبعد صلاة العشاء نذهب للرمسة في الوادي، أوفي الشرجة، وبعد صلاة العتيم (العشاء) نخلد للنوم.

      هكذا كان الروتين اليومي، أذكر كان غداؤنا  قبل صلاة الظهر، ثم نصلي الظهر بعد قيلولة صغيرة نأخذها في دهريز البيت، وبعد خروجنا من تأدية صلاة الظهر في المسجد نتسابق نحن الشباب لإحضار البن والتمر من بيوتنا، ونتنافس في إعداد القهوة على موقد في السبلة من أجل أن ننال الشكر والثناء من الكبار، وكنا نعد القهوة بنار الحطب، نحمص البن وندقه ثم نطبخه على قدر من الفخار (الدلة).

      حضور سبلة الظهر للشباب إجباري، نتعلم من الكبار كل ما هو مفيد لمستقبل حياتنا، ونادراً ما ترى أحداً فارغ اليدين، الكل مشغول في مشغولاته السعفية وصنع الحبال وصنع ما يمكن بيعه لكسب قوت يومه.

       

       ويتم من خلال جلسة السبلة تداول مستجدات الأحداث في الساحة العالمية، وما يهم من أخبار تكون قد وردت في الإذاعة، وكان لا يوجد من سكان القرية من يملك جهاز راديو إلا القليل جداً منهم، ربما آلت إليه من خلال سفره إلى بعض دول الخليج أو أفريقيا. وعندما يعود أحد المغتربين من السفر فإنه يقيم جلسة في السبلة لمدة يومين كجلسة العزاء، لكنها جلسة فرح، يتحدث عن أحوال ووضع العمانيين في البلد التي قدم منها، ويعرف هذا العائد "بالسفري" ويقدم للمهنئين الحلوى بدلاً من التمر، و يأتي إليه الناس من أطراف القرية ليهنئوه بنعمة العودة (بمناسبة وصوله)، لعلهم يسمعون أخباراً طيبة منه عن ذويهم أو يجدون لهم رسائل منهم.

                    

      نظام الاتصال في السابق حتى عام السبعين كان ضعيفاً جداً ويتم عبر الرسائل الشفوية وتسمى (وصاه) أو المكتوبة وتعرف بـ (البروة) وهي كلمة من أصل برتغالي فيما أظن وتعني الرسالة.

      تنقل الرسائل بواسطة أفراد، وإذا كانت لخارج عمان تعطى للشخص الذاهب إلى مسقط ليرسلها عبر البريد، وحتى آخر الستينات كان  في عمان مكتب بريد واحد، في مسقط، مخصصة صناديقه لكبار التجار. ويتم توزيع الرسائل الواردة للأفراد من خارج عمان بواسطة هؤلاء التجار ثم يسلمونها لصغار التجار الذين يأتون إليهم من المناطق.

      كان السفر من إبراء إلى مسقط يأخذ يوماً كاملاً بسبب وعورة الطريق في وادي العق والذي لا تقطعه إلا الشاحنات الكبيرة التي تأتي بالبضائع، وتستخدم هذه الشاحنات لغرضين هما نقل البضائع ونقل الركاب في آن واحد، ويجب أن يكون السائق ماهراً في قيادتها، ولديه خبرة ميكانيكية جيدة في نفس الوقت يعاونه معاون أو معاونين،  يعرف بـ "البشكار" لشحن وتفريغ البضائع وإعداد وجبة الغداء للركاب عند التوقف لصلاة الظهر، وكلمة "بشكار"، قد تكون عجمية، لست متأكدا عن مصدرها.

      هناك نوعان من هذه الشاحنات تستخدم بشكل واسع في طرق عمان لا أعرف سر استخدامها ربما لشركات بريطانية من مخلفات الحرب العالمية استوردت من مستعمراتها في الشرق الأوسط، هي الـ Bedford و Ford Canada وتشترى هذه السيارات برخصة من مكتب السلطان السيد سعيد بن تيمور. وكانت هذه الشاحنات تمر عبر إبراء مرة واحدة في الأسبوع قادمة من مسقط متجهة إلى القابل و بدية وعند الرجوع بالعكس.

      هكذا كانت الحياة في السابق، بدائية حتى أواخر الستينات (النوم على الحصير وعلى الأرض في غرف من الطين مظلمة قليلة التهوية بعضها لا تزيد مساحتها ربما عن 3×4 متر ليس بها شباك تهوية ولا إضاءة إلا من المرق (تلفظ بسكون الراء، ومفردها مراق) وهي فتحات صغيرة تحت السقف مباشرة، ويختلف التصميم من منطقة إلى منطقة في عمان، حسب ظروف المناخ في كل منطقة.

      الإضاءة في الليل من قناديل الكيروسين، وفي ليالي الصيف يكون النوم في فناء البيت (الحوش) على مفرشة من سعف النخيل (الدعن), و يمشي البعض منا حافي القدمين وإذا  توفرت له النعال فإنها من المطاط (زنوبة) تلك التي تستخدم في وقتنا الحاضر عند دخولدورات المياه في المساجد، لا تحمي من شوك ولا من حجر، والأكل جماعي في صحن واحد من المعدن وفي جوانبه قد يبدوعليهاالصدأفي بعض الأحيان، مملوءبالأرز مع المرق، أو أرز مع اللبن (الجمبة)، أو أرز مع سمك مجفف (العوال) لا توجد له مدة صلاحية. ولكن كان الناس عندهمالقناعة، وأملها في رحمة الله كبيرة. قال تعالى في سورة هود الآية 6:(وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها  ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين).

      الصحة العامة

      ليس قصدي أن أرسم صورة قاتمة عن حياتنا في الماضي بقدر ما أود أن أبين لأولادي وأحفادي عن أهمية الحفاظ على تراثنا وبعض عاداتنا وتقاليدنا الجميلة، الحمد الله رب العالمين.

      في سورة لقمان (الآية 33) قال الله تعالى:(يا أيها الناس اتقوا ربكم و أخشوا يوماً  لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنك بالله الغرور). وفي سورة فاطر(الآية 05) قال تعالى:(يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)، وهكذا سنجد الآيات تتكرر في سور عدة تحمل الإنسان على أن يعتبر وهذا سبب قناعة الناس في الماضي بسبب مداومتهم قراءة القرآن واستخلاص العبر، فإن "القناعة كنز لا يفنى".

      وبهذه الإمكانيات البسيطة التي كانت متوفرة من مسكن ومأكل ومشرب للأسرة في السابق كان الفطور من السح والقهوة (التمر) والعشاء الله يعلم، اقتصاد البيت كان يتوقف على "ست البيت" وشطارتها، فالشخص محظوظ إذا توفرت له الزوجة التي تعرف كيف تتصرف في الأزمات. هناك، لا وجود للخضار أو الفواكه التي نراها في الأسواق في عصرنا هذا، عدا فواكه الصيف البسيطة، مما يتضح أنه كان هناك حالات سوء التغذية، وبسببها تفشت كثير من الأمراض المزمنة، لم  نعرفها، كان الأهالي يعزون أسبابها على السحر والحسد، مما زاد في عدد الدجالين والمشعوذين.

      كان هناك شبه عيادة وجدت في منتصف الستينات تعرف "بمستشفى إبراء" تقع بحلة المنزفة بها دكتور من جنسية أسيوية مسلم، وممرض عماني درب محلياً على  مبادئ بسيطة في  التمريض وصرف الأدوية، والأدوية التي كانت تصرف للمرضى بدائية لا يتجاوز استخدامها عن التي تستخدم في الإسعافات الأولية في وقتنا الحاضر، حتى أن البعض منها يتم تحضيرها  يدوياً في تلك اللحظة بالهرك والطحن وتصرف في قصاصات ورق من كراسات الدفاتر القديمة، و من الطرائف التي أتذكرها: عندما يأتي فصل الشتاء و يصبح الجو بارداً وجافاً يبدأ الغبار في التطاير  (السبخة) من جراء المشي في الطرق الترابية و يلتصق على الساقين والقدمين  وقد يصل الغبار إلى الركبة، ويسبب هذا الغبار العالق جفافاً في القدمين والساقين  يتقشر الجلد و يؤدي إلى تشقق الجلد، وعندما نذهب لهذه العيادة لتلقي العلاج يصرف  لنا في قصاصات الورق grease (زيت تشحيم السيارات)، حيث لا يتوفر في العيادة المرهم أو الفازلين (Vaseline skin jelly الذي يتوفر الآن في أبسط "المحلات التجارية"، بالرغم أن هذا الجلي كان متوفراً في سوق مطرح ومن الأدوية البدائية كالأسبرين والأسبرو ودواء الكحة والأدوية التي تتوفر للأمراض الشتوية، وربما سبب التقصير وعدم توفر الأدوية المناسبة يعود إلى ما يسرق من مال عند شراء الأدوية، حيث في السابق ما كانت توجد رقابة، وكان البقاء للأقوى وصاحب النفوذ، ويعتبر المواطن في ذلك الزمن جاهلاً و عبيطاً في نظر الأجانب.

      وبيوت إبراء ليست كلها من طين، بل هي خليط من هذا وذاك حسب المستوى المعيشي للأسرة، فمثلاً تجد أقواس وأعمدة الدهريز من الجص وباقي المبنى من طين، أو تجد الدهريز كله من الجص، هذا حسب يسر العائلة، وهناك بيوت من الجص للهناقرة (مفردها هنقري، يقصد بها الأغنياء) تتكون من طابقين، بنيت هذه البيوت ربما بعد انفتاح زنجبار وهجرة تجار عمان إليها. إلا أن هوللأسف انهارت هذه البيوت كلها ولم تبق إلا أطلالاً بها غائط وبراز العمالة الأسيوية عندما لا يجدون مكاناً يقضون فيه حاجتهم.

      الانتقال بين المناطق

      ليس من السهل قبل عام سبعين التنقل بين قرى المناطق في عمان، حتى ولو كانت المسافة قصيرة لا تتجاوز بضع كيلومترات، والسبب هو قلة توفر وسائل النقل المناسبة، أما أن تقطع المسافة مشياً على الأقدام، أو الاعتماد على الدواب. (الحمير). فمثلاً تستخدم الحمير للمسافات القصيرة وفي الطرق الجبلية، و تستخدم لمدى أبعد. و ليس هذا فحسب،،  بل هناك تقاليد للخروج لا بد من إتباعها أو الالتزام بها، كحمل السلاح على سبيل المثال.

      وفي حالة الخروج من البيت وفي نطاق الحارة أو خارج القرية فإن هذا المشوار يتوقف على نوعية المسافة المراد قطعها،فمثلاً داخل الحارة تحمل العصا (الباكورة) وهي في نطاق مسافة سبلة الحارة، أو المسجد. أما إذا  كان المشوار خارج الحارة إلى القرى المجاورة مثلاً، كأن لا تبعد أكثر من كيلومتر واحد فإنه يكتفى بلبس الخنجر بالإضافة إلى العصا، ولبس المصر إجباري، ولا تلبس الكمة إلا في البيت أو في الحارة. وأذكر عندما كان يرانا كبار السن نخرج إلى السوق بدون خنجر يتم إرجاعنا بالعصا، مازالت عبارة (هين نوك أنت وبطنك ارجع البس خنجرك !) تتردد في ذهني إلى اليوم.

      وإذا كانت  المسافة أبعد من ذلك فإن حمل السلاح كاملاً يكون إلزامياً وحسب المتوفر، وهو عادة ما يتكون من التفق (البندقية) والمحزم (وشاح الزانة: الرصاص)، والخنجر، والباكورة.

       

      ليس هناك وسيلة لقياس المساقة إذ يحدد نوع السلاح المراد حمله، حيث كان ذلك متعارفاً عليه بالفطرة. يعتبر السلاح في الماضي عند العمانيين من زينة الرجال  والوجاهة وقوة الشخصية، بالإضافة إلى كونه وسيلة للدفاع عن النفس. تتوقف  نوعية السلاح وجودته حسب إمكانية الشخص وقدراته المادية ويقاس ثراء الشخص من نوعية السلاح الذي يحمله أو يمتلكه. وربما هذه العادة أتت بسبب الحروب الأهلية بين القبائل العمانية وغياب الأمن والنظام العام في الماضي على أثر انقسام عمان إلى طوائف متناحرة، والمطلع على تاريخ عمان القديم سيجد سبب هذا الانقسام، ولا داعي تفصيله هنا قد لا يتسع المقام كونه خارج الموضوع.

      التنقل بين مسقط ومناطق الشرقية وأيضاً المناطق الأخرى صعب جداً بسبب قلة توفر وسائل النقل ووعورة الطريق التي تسلكه السيارات من وديان وجبال ورمال وغيرها من الطرق الترابية الغير معبدة، على سبيل المثال: السفر من إبراء إلى مسكد (مسقط) كما نعرفها سابقاً أو باللهجة المحلية، يستغرق ما بين سبع أو ثمان ساعات هذا في حالة عدم وجود وديان سائلة أو عطل ميكانيكي في السيارة، ولا يمكن السفر بدون سيارات الدفع الرباعي مثل سيارات "اللاندروفر"landrover البريطانية، أو"اللاندكروزر" land cruiser اليابانية التي كانت متوفرة في ذلك الوقت، ولكن أكثر سيارات الركاب المستخدمة و السائدة في ذلك الوقت هي الشاحنات (اللوري) من نوع "بتفورد"، و "فورد كندا" التي تستخدم كسيارات شحن و سيارات نقل ركاب في نفس الوقت، حيث يجلس الركاب فوق البضائع إذا كانت الرحلة من مسقط إلى المناطق، أما من المناطق إلى مسقط قد تكون الشاحنات فارغة أو شبه فارغة عند عدم وجود بضائع كالليمون المجفف والبسر (بسر نخيل المبسلي المطبوخ) الذي يجفف و يشحن ليباع في مسقط ومن هناك يصدر إلى الهند.

      طاقم هذه الشاحنات يتكون من شخصين السائق يعرف (بالدراول) وهي كلمة أجنبية مشتقة من كلمة Driver ومعاونه (بشكار)  الذي يقوم بالأعمال الغير مهنية في الشاحنة بالإضافة إلى مسؤولية إعداد وجبات الطعام للركاب عند الاستراحة.

      أصعب الطرق من المنطقة الشرقية إلى مسقط طريق وادي العق، وبعد عبور هذا الوادي تتوقف السيارة في قرية لزغ التابعة لولاية سمائل للصلاة والاستراحة والغداء، أو أحياناً في قرية سرور عند المساء للعشاء والمبيت لأن مسقط كانت تقفل بعد غروب الشمس. أما السيارات القادمة من مسقط إلى الشرقية تتوقف في قرية مقيحفة التابعة لولاية المضيبي أو سمائل، لا أتذكر.

       

      ومن الطرائف التي لا أنساها عن مشكلة النقل تلك التي سرت فيها مشياً على الأقدام اثنان وعشرين كيلومتراً قطعتها من بلدة المضيرب إلى إبراء ربما من المناسب ذكرها في هذا المقام للشباب.

      في يوم من الأيام زرت أحد أقاربنا في بلدة المضيرب التابعة لولاية القابل وبعد انتهاء مدة الزيارة أردت العودة في نفس الشاحنة التي جئت فيها، ولكنها تأخرت كثيراً عن موعد وصولها من ولاية بدية إلى المضيرب وبعد  أيام من الانتظار ذهاباً وإياباً إلى مكان وقوف الشاحنة رأيت من غير المناسب أن أبقى أكثر مما ينبغي في ضيافة قريبنا، فالثلاثة أيام المعتادة للزيارة قد انتهت.

      كنت أجلس تحت ظل شجرة الغاف حامل زانتي (الزانة هو السلاح: الخنجر و التفق ومحزم الرصاص) حيث يحمله الفرد في الماضي عند سفره وكلمة زانة مشتقة من الزينة: فيقال زينة النساء لبس الذهب، وزينة الرجال السلب، بفتح السين واللام.

      وهكذا، كنت في انتظار الشاحنة من طلوع الشمس إلى صلاة الظهر، ثم أعود مرة  أخرى من بعد الغداء إلى غروب الشمس، حينها تذكرت قصة أحد الشياب من حارتنا، حكيت لي عنه، بأنه عندما لا يجد عبرة تنقله من إبراء إلى المضيرب، فإنه يستخدم قدميه للذهاب والإياب، غير مبالٍ بوحوش البراري طالما كانت معه مطارته (مطارة تعني مطرة أي قربة الماء وهي مصنوعة من الخلق الخشن)، لذا قررت أن أخوض تجربته، لِمَ لا؟ وأنا أصح منه بدناً.

      وبالفعل مشيت إلى إبراء، وكانت بالنسبة لي تجربة جيدة أعطتني ثقة بالنفس استفدت منها في مشوار حياتي، ومن حينها استهوتني رياضة المشي لأني أجد فيها متعة التأمل، ومازلت أقوم بها حتى الآن من دارسيت إلى المركز الصحي بروي عند مراجعة علاج السكري، وأحياناً عند العودة من مستشفى النهضة إلى دارسيت عند مراجعة علاج شبكية العين.

      1. عبد الله السناوي - شارك