1. مال البكار الجزء الثاني:

      تطور الوقف على مر العصور الإسلامية:

      كانت أوائل الوقفيات في عهد الرسول وصحابته تشمل المساجد والمزارع وغيرها.

      الوقف في العصر الأموي:
      كثرت الأوقاف نظراً لاتساع الفتوحات الإسلامية التي بلغت مشارف الصين شرقاً، وحدود فرنسا غرباً وأنشئت إدارة خاصة للإشراف على الأوقاف، وخضعت إدارة الأوقاف لإشراف السلطة القضائية مباشرة، وكانت مستقلة عن السلطة التنفيذية.

      الوقف في العصر العباسي:
      ازداد التوسع في إنشاء الأوقاف، وكان يتولى ديوانها من يطلق عليه(صدر الوقف)، وشملت مصارف ريع الوقف الأوقاف الحضارية المدنية كالمستشفيات والمكتبات ودور الترجمة ومعاهد التعليم وغيرها..

      الوقف في عصر المماليك:
      اتسعت الأوقاف في عهد المماليك وكثرت كثرة ملحوظة واتسع نطاقها وأنشئت ثلاثة دواوين للإدارة والإشراف على الأوقاف هي : 1. ديوان لأحباس المساجد. 2. ديوان لأحباس الحرمين الشريفين في وجهات البر المختلفة. 3. ديوان للأوقاف الأهلية.

      الوقف في العصر العثماني
      اعتنى سلاطين العثمانيين بالأوقاف بدرجة ملحوظة وخاصة عند نساء بني عثمان، وتوسعت مصارف ريع الوقف لتشمل كليات الطب والخدمات الطبية لمستشفيات قائمة، مواكبة للتطور والتقدم العلمي في العصور الحديثة.

      الوقف في العصر الحاضر:
      قامت كثير من الدول الإسلامية في العصر الحاضر اهتماماً بالأوقاف في مجالات شتى، كما أنشأت كثير منها وزارات خاصة بالأوقاف أو إدارات خاصة تعنى بشئونها وأمورها.

      أنواع الوقف:
      للوقف أبعاد دينية واجتماعية واقتصادية وثقافية وإنسانية غطت أنشطتها سائر أوجه الحياة الاجتماعية وامتدت لتشمل المساجد والمرافق التابعة لها والدعوة والجهاد في  سبيل الله، والمدارس ودور العلم والمكتبات، والمؤسسات الخيرية، وكفالة الضعفاء والفقراء والمساكين والأرامل، والمؤسسات الصحية.
      ويستند شرعيته لأحاديث نبويه كثيرة منها: مارواه أبو هريرة، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"
      كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته:علماً نشره أوولدًا صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته".

      1. بناءالمساجد:
      أهم الوظائف التي يشتمل عليها المسجد: الإمامة - الأذان -الصيانة -النظافة -التربية والتعليم -الخطابة -الوعظ والإرشاد -قراءة القرآن - تعليم أبناء المسلمين.

      ومن المرافق الهامة التي ترتبط بالمسجد: محلات الطهارة والوضوء، وتحتاج بدورها إلى دعم متصل لتزويدها بالماء الطاهر وتنظيفها وإصلاحها، وهناك مرافق أخرى: كالإنارة والتدفئة أو التبريد وكل هذه الوظائف دامت واتصلت بفصل الوقف. كان أول وقف في الإسلام هو بناء مسجد "قباء" الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم حين قدومه إلى المدينة مهاجراً. ثم "المسجد النبوي" الذي بناه صلى الله  عليه وسلم بالمدينة بعد أن استقر به المقام.

      2. الوقفوالجهاد في سبيل الله:
      يؤكد مشروعيته هنا ماروى أن خالد بن الوليد حبس دروعه وأكراعه في سبيل الله. ويغطى الوقف هنا:

      - تأهيل المجاهدين.
      - إعداد العدة اللازمة من سلاح وطعام.

      - صناعة الأسلحة.
      فك أسرى المسلمين من أيدي الأعداء،وقد سجل تاريخ الإسلام أوقافاً كانت مخصصة لهذا الغرض، ولعل أشهرها وقف صلاح الدين الأيوبي الذي كان ببلده بلبيس.
      وبفضل ما تدره الأوقاف من أموال سخية في هذا المجال، قاومت الأمة الإسلامية أعداءها على مر العصور، وصدت جيوش الاستعمار في العصر الحديث، ولم ينجح المستعمر في اختراق حدودها إلا بعد أن ضعفت مؤسسة الوقف وتقلص دورها في حياة المسلمين.

      3. الوقفوالمواسم الدينية:
      تعتبر المواسم والأعياد الإسلامية شعائر تعبدية، فضّلها الله تعالى على غيرها وأمر بإحيائها من هذه المواسم: شهر رمضان وعيد الفطر وعيد الأضحى ويوم عاشوراء.وحرصاًعلى إقامة هذه الشعائر، أقام المسلمون أوقافاً خاصة بها، وشرطوا أن تخصص لإحيائها، وأن يصرف ريعها على المحتاجين للتفريج عنهم وإدخال السرور على أنفسهم.

      هناك وثائق نصت على أن يصرف من ريع الوقف كل سنة في الآتي:
      -في يوم عاشوراء في شكل إعانات ومواد غذائية،  توزع على طلبة العلم والأيتام والفقراء والمساكين.
      - في كل يوم من أيام رمضان على الفقراء والمساكين وطلاب العلم...ومولت الأوقاف موائد الإفطار والسحور للصائمين من الفقراء والغرباء، ووضعت بذلك الأساس لِسُنَّةٍ حسنة لا تزال حية في بعض البلاد الإسلامية تحت شعار"موائد الرحمان" ففي عيد الأضحى الأغنام تذبح وتوزع لحومها.
      - هناك أوقاف أخرى يتجلى فيها هذا البعد الديني كتلك التي كانت مخصصة للحرمين الشريفين، والزوايا وأهل التصوف ونسخ المصاحف وقراءة القرآن، ولايتسع المجال هنا للحديث عنها.
      ومن منافع ذلك النوع من أنواع الأوقاف أنها تدخل السرور على قلب المرءالمحتاج حسب قول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم: إشباع جوعته وتنفيس كربته.

      4.الوقفعلى المدارس:
      عرف تاريخ الإسلام إيقاف أموال المسلمين على التعليم  وبناء المدارس. ولدينا العديد من الأمثلة على عظمة ورقى المسلمين في هذا الصدد. من امثلة ذلك ما روى في كتب التاريخ حول:
      روى الرحالة الشهير ابن جبير: أنه شاهد في بغداد نحو  ثلاثين مدرسة،
      كل واحدة منها في قصر وبناية كبيرة.... أشهرها وأكبرها "المدرسة النظامية". ولهذه المدارس أوقاف وعقارات للإنفاق عليها وعلى العلماء والدارسين فيها، وكان وقف "نظامية بغداد" خمسة عشر ألف دينار شهرياً، وتخرج منها أكابر العلماء.
      تحدث ابن جبير عما شاهده من هذه المدارس في القاهرة ودمشق وغيرها بتأسسالمدارس الموقوفة  الخاصة بأبناء الفقراء والأيتام واللقطاء.
      ويعطي ابن خلدون أمثلة على ما كان في بغداد وقرطبة والكوفة والبصرة والقيروان وفاس من مراكز علمية، ويتحدث عما شاهده في القاهرة من التطور العلمي وازدهار المدارس.
      ويذكر التاريخ فضل صلاح الدين الأيوبي في إنشاء المدارس العلمية في جميع المدن التي كانت تحت سلطانه، في مصر ودمشق والموصل وبيت المقدس.


      5. الوقفعلى المكتبات :
      انتشرت المكتبات التي أوقفها المسلمون في جميع بلاد المسلمين في بغداد ومصر والشام والأندلس والمغرب على  مَرِّ التاريخ.
      وهناك أمثله عديدة توضح المستوى الذي كانت عليه تلك المكتبات:

       (أ)حوت المكتبة التي أوقفها ابن مليس الوزير الفاطمي على غرف عديدة للمطالعة، وقاعات خاصة للمحاضرات والمناظرات، وقاعة خاصة لتوجيه الباحثين والناشئين. وأعطيت من ريع وقفها مرتبات لطلبة العلم والعلماء والقائمين عليها.

      (ب)يقال أن المكتبة التي أوقفها بنو عَمَّار في طرابلس الشام، كانت آية في السعة والضخامة، وإنها اشتملت على مليون كتاب.

       (ج)يصف لنا ابن جبير عن المكتبات التي أوقفها المسلمون في مصر فيقول: "ومن مناقب هذا البلد، أي مصر ومفاخره أن الأماكن في هذه المكتبات قد خصصت لأهل العلم فيهم، فهم يفدون من أقطار نائية فيلقى كل واحد منهم مأوى يأوي إليه ومالاً يصلح به أحواله. وبلغ من عناية السلطان بهؤلاء الذين يفدون للاستفادة العلمية، أن أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها، وخصص لهم مستشفى لعلاج من مرض منهم، وخصص لهم أطباء يزورونهم وهم في مجالسهم العلمية، وخصص لهم الخدم لقضاء حاجاتهم"


       


      6.الوقففي المجال الصحي:

      بلغ من عناية المسلمين بالرعاية الصحية وتطوير خدماتها، أن خصصت أوقافا وقفت على رعاية المرضى جميعا دون تمييز بين فقير وغنى.
      ويجب أن نشير إلى أن الخدمات الصحية التي تقدمها هذه المراكز الطبية، من علاج وعمليات وأدوية وطعام، كانت مجاناً بفضل الأوقاف التي كان المسلمون يرصدونها لهذه الأغراض الإنسانية، إذ كانت الرعاية الصحية في سائر البلاد الإسلامية إلى وقت قريب من أعمال البر والخير، ولم تكن هناك وزارات للصحة العمومية كما في العصر الحاضر.
      وكان للأوقاف أثر حميد في النهوض بعلوم الطب؛ لأن دور المستشفيات التي ينفق عليها من الأوقاف لم يقتصر على تقديم العلاج، وإنما تعدى ذلك إلى تدريس علم الطب، فكانت تخصص قاعات داخل المستشفيات الكبيرة للدروس والمحاضرات.


      بعض الأمثلة لبيان مستوى تلك الخدمات الطبية:

      (أ)كان أول مستشفى كبير في تاريخ الحضارة الإسلامية هو "البيمارستان" الذي أمر ببنائه هارون الرشيد ببغداد. ثم توالت بناء المستشفيات حسب نظام الوقف حتى أصبح ببغداد وحدها في مطلع القرن الرابع الهجري خمسة مستشفيات.

       (ب)وصل الأمر إلى بنــــــــاء أحيــــــاء طبية متكاملة: فقد تحدث ابن جبير في رحلته: أنه وجد ببغداد حياً كاملاً من أحيائها يشبه المدينة الصغيرة، كان يسمى بسوق المارستان، يتوسطه قصر فخم جميل وتحيط به الغياض والرياض والمقاصير والبيوت المتعددة، وكلها أوقاف وقفت على المرضى، وكان يؤمه الأطباء والصيادلة وطلبة الطب، إذ كانت النفقات جارية عليهم من الأموال الوقفية المنتشرة ببغداد.

       (ج)تحدثت كتب التاريخ عن المستشفيات التي أنشئت في مصر بفضل أموال الوقف مثل مستشفى أنشأه الفتح بن خافان ومستشفى أمير مصر أحمد بن طولون والمستشفى الذي أنشأه صلاح الدين الأيوبي، وقد تحدث المؤرخون والرحالة عن المستشفى التي أنشأه الملك قلاوون بمصر، وجعله وقفاً لعلاج مرضى المسلمين، قال عنه ابن بطوطة:إنه يعجز الوصف عن محاسنه، وقد أعد فيه من الأدوية والمرافق الخدمية ما لايحصى.

      (د)وكثرت المنشآت الصحية بمدن الأندلس حتى ان مدينة قرطبة وحدها كان بها خمسون مستشفى، أوقفها الخلفاء والأمراء والموسرون.وكذلك الحال في المغرب الأقصى حيث انتشرت المستشفيات في أهم المدن وتحدث عنها المؤرخون بإسهاب، ومن أهمها مستشفى سيدي فرج بفاس الذي خصص جزءاً منه لعلاج طير اللقلاق، وجزءاً خصص للموسيقيين الذين يزورون المرضى مرة كل أسبوع للترفيه عنهم.

      7. الرعايةالاجتماعية:

      تعددت أنواع الوقف في هذا المجال عبر التاريخ الإسلامي فهناك:
      - أوقاف للّقطاء واليتامى لإيوائهم ورعايتهم وختانهم.
      - أوقاف مخصصة لرعاية المقعدين والعميان والشيوخ والعجزة، وأوقاف لإمدادهم بمن يقودهم ويخدمهم.
      - وأوقاف لتزويج الشباب والفتيات ممن تضيق أيديهم وأيدي أوليائهم عن نفقاتهم، وفي بعض المدن دور خاصة حبست على الفقراء لإقامة أعراسهم.
      - وأوقاف لإمداد الأمهات المرضعات بالحليب والسكر، ويذكر المؤرخون بإعجاب شديد أن من محاسن صلاح الدين الأيوبي أنه جعل في أحد أبواب القلعة بدمشق ميزاباً يسيل منه الحليب، وميزاباً يسيل منه الماء المحلى بالسكر، تأتي إليهما الأمهات في كل أسبوع ليأخذن لأطفالهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر.

      - وأوقاف لإنشاء دور للضيافة والاستراحة (الخانات(.
      - وأوقاف لقضاء الديون عن المعسرين، وأوقاف للقرض الحسن، وأوقاف لتوفير البذور الزراعية، ولشق الأنهار وحفر الآبار.
      - ومن أهم المنشآت الاجتماعية التي نشأت في المجتمعات الإسلامية، بفضل الاهتمام بالوقف، أسبلة المياه الصالحة للشرب(السقايات) وكان من تقاليد الوقف أن تلحق الأسبلة بالمساجد، وغالباً ما تكون وسط المدينة أو على طرق القوافل، لتكون في متناول الجميع. وشاع الوقف لهذا الوجه من البِرِّ في سائر أنحاء العالم الإسلامي، لعظيم فضلها وثوابها.
      - وهناك أوقاف مشهورة في التاريخ لتزويد مكة المكرمة بالماء الطاهر الطيب، أشهرها وقف السيدة زبيدة زوج هارون الرشيد، وما زال يعرف بعين زبيدة.

      1. عبد الله السناوي - شارك