1. التفكير قبل التدبير

      لا يختلف اثنان على أن عُمان تعتبر من أجمل دول مجلس التعاون الخليجي، جمالها يكمن في تضاريسها وتراثها وهندسة معمارها وفلكلورها الشعبي. وهذا طبيعيٌ  بسبب انفتاحها على دول العالم المطلة على المحيط الهندي سواءً أكانت أسيوية أم أفريقية.

      ونرى في العمانيين مزيجاً من الثقافات بين العربية والأفريقية والأسيوية وهذه الثقافات تتجلى كلما اقتربنا من العاصمة مسقط، و من الطبيعي أن نجد هذا؛ فمسقط شأنها شأن بقية العواصم العربية الأخرى المطلة على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي.

      مسقط استقبلت واستقطبت في الماضي العديد من التجار والمهاجرين القادمين إليها من الشرق والغرب بسبب علاقتها التجارية، وبحكم موقعها الجغرافي المطل على بحر العرب.

      كما أننا لا ننسى كانت لعمان مستوطنات في الماضي في شرق أفريقيا، وجنوب غرب أسيا في الدول المطلة على ساحل بحر العرب وخليج عمان، يمتد تاريخها ربما إلى ما قبل حكم قبيلة اليعاربة في عمان، أو ربما في عهد حكم قبيلة النباهنة العمانية.

      ومن يزر ولاية مسقط وولاية مطرح بالذات، يرى أثار الثقافة الهندية متجلية في المباني على شارع مطرح البحري (الكرنيش) والثقافة الفارسية في هندسة المباني التي تتجلى في القلاع والحصون في الداخل، هناك كثير من التشابه بين المباني التاريخية في عمان والمباني التاريخية في بعض المناطق في إيران لعل السبب يعود إلى تداخل التاريخ بين العمانيين والفرس، إذ كان لعمان مستوطنات في بعض البلدان الإيرانية المحاذية لبلوشستان وباكستان، حدث ذلك بعد دحر الغزو الفارسي لعمان في أواخر عهد حكم قبيلة اليعاربة وأول حكم البوسعيديين في عمان.

      فحكومة سلطنة عمان لم تأل جهداً في صيانة وترميم المباني التاريخية التي تمتلكها وفتح أبوابها للزوار من السواح، ولكن بقيت هناك الكثير من المباني القديمة غير مرممة يمتلكها الأهالي وهي تحمل الطابع والطراز المعماري الفارسي القديم في الأبراج والقلاع، كالشبابيك مثلاًً والروازن وأقواس فتحات المداخل في البيوت.

      والروازن مفردها روزنة (وهي كوة غير نافذة في الحائط توضع عليها المرأة أوانيها المعدنية والأواني الصينية الصغيرة، أو زينتها من الحلي)، والروزنة مثيلة لفتحات الرفوف في وقتنا الحاضر.

      والبيت العماني القديم كما نعلم صغير في الحجم يتكون من الصفة والدهريز (غرفة ودهليز)، وغالباً ما يكون من الطين، عدا البعض منها به أقواس تعرف لدى العمانيين (بالعقود) مبنية من مواد الجص و الصاروج، (الأسمنت العماني الذي نراه الآن في القلاع والحصون).

      وبيوت الطين (بيوت خضراء)، أي أنها صديقة للبيئة وقد ثبت مؤخراً هندسياً بأنها من المباني الصديقة للبيئة، وتجرى عليها بحوث من أجل توصية استخدامها. ومن يزر المناطق في الداخل - خارج محافظة مسقط ـ سيرى بقايا هذه البيوت ومازلت أطلالها قائمة حتى يومنا هذا، ملاصقة للمباني الحديثة، عدابعض المباني التي في الضواحي (المزارع).

      والمتأمل لهذه البيوت سيرى مدى اكتفاء الإنسان العماني في الماضي ذاتياً في معيشته، فصداقته لبيئته يسرت له الحياة في المأكل والمسكن، وأيضاً في الملبس هذا إذا ما أخذنا في الاعتبار قماش الإزار الذي كان يصنع محلياً من الغزل بواسطة آلات الغزل الخشبية التي كنا نعرفها (بالكارية).

      فالنخلة صديقة العماني كالشاة التي تعطيه لحمها ولبنها وصوفها، فمن النخلة يأكل الرطب والتمر، ويستخدم سعف النخيل (الزور) لصنع الأسِرَّة، وأسقف المنازل إضافة إلى ليفها وجذوعها، وليف النخيل يستخدم أيضاً لصنع الحبال، ولفرك الأواني و كرب النخلة يستخدم كوقود للطهي، ومضارب لتطييب البر (القمح) من السنابل، ومن عذق النخلة الجاف (العسو) يستخدم لكنس البيت...إلخ.

      وسكان عمان في الماضي كفلاء لبعضهم البعض، متضامنين، فمن يمشي في أزقة الحارات القديمة سيرى كيف كان السكان يعيشون في الماضي، معتمدين على الله سبحانه وتعالى وعلى ذاتهم كما يقال... (من الألف إلى الياء)، فتجد فيهم المزارع المحترف، ومربي الماشية والصياد والصائغ والنجاروالحرفي والخدمي، لا شيء يستورد من الخارج  اللهم إلا الأرز وبعض الأخشاب التي تجلب من الهند وأفريقيا إذ كانت سفنهم تمخر عباب البحر ذهاباً وإياباً بين الشرق والغرب.

      والعمانيون يعيشون في حياة بيئية متكافلة ولا غرابة أن حمل العمانيون حضاراتهم إلى خارج حدود أرضهم، وأصبحوا قوة عظمى تنافس وتناطح دولاً كبرى كفرنسا وبريطانيا وهولندا والبرتغال في ذلك الوقت... من القرن الخامس عشر والذي شهد سيطرة التجارة في أعالي البحار.

      فالعماني إنسانٌ متعلم سواء أكان في الماضي أم في الحاضر،وقلما تجد من لا يقرأ القرآن، إذ كانت مدارس القرآن الكريم في الماضي تخرج أفواجاً من حفظة القرآن، أو على الأقل من يجيد قراءته قبل أن ينطلق إلى ميدان العمل، إذا لم يحالفه الحظ لتكملة دراسته النحوية في مساجد الجامع.

      ومن يقابل عُمانياً في الطريق سيجد البساطة في مظهره، والبشاشة على وجه سواء أكان غنياً أم فقيراً، لا يظهر ما يملكه من علم أو مال، زاهداً في حياته، ولكن لا يستهان به في وقت الشدة، رابط الجأش عالي الهمة.

      كثير من الأوربيين ممن قابلتهم يجوبون السكك والأزقة في الحارات القديمة؛ يحملون معهم كتباً صغيرة يسترشدون بها؛ منها مراجع أو قصص يتصفحونها عند كل موقع يقرؤون ما كتبه من سبقهم في زيارة الموقع.

      ونجد من هؤلاء السواح الأديب والمهندس والفنان، وعندما نراهم قد نستخف من مظهرهم وملابسهم الرثة، ولكنهم علماء أتوا ليدرسوا تاريخنا وحضارتنا، وطريقة معيشتنا في الماضي، والاستفادة من فن الزخرفة والنقوش على جدران بيوتنا ومساجدنا (أرابيسك)، ثم نقل هذه المعلومات وتدريسها في جامعاتهم، ليستنبطوا من طلاسمها عما تكنه هذه الرسومات من أسرار عن ماضينا التليد. ونحن للأسف في وقتنا الحاضر عمينا برغد العيش عن الانتباه على أهمية هذه المواقع، وتركناها هكذا مهملة، مندثرة، وجعلنا بعضها مرمى للقمامة دون أن يدرك البعض منا أهميتها، على قول المثل: "من لا يعرف قيمة الصقر يشويه".

      ولولا أهمية هذه المباني التراثية الأهلية لما أتت أفواج من السواح الألمان لزيارتها والتقاط الصور لها. يلتقطون صوراً تفصيلية عن كل شيء تحتويه هذه المباني من أقواس وروازن وأبواب خشبية، ويدققون في تفاصيل النقش المحفور على الأبواب الخشبية، خاصة تلك الأبواب التي جلبت من شرق أفريقيا.

      ومما يؤسف له أن الكثير من هذه المبانيإن لم يكن جلهاقد اندثرت وتساوى معظمها بالتراب خاصة الطينية منها، مما يصعب ترميمها. وبعضها بقيت عالقة، متماسكة بأبوابها وشبابيكها الخشبية، مقاومة للعوامل الطبيعية إلى أن يحين أجلها ـ وليس من مغيث ـ فالحكومة تركت شأنها لأصحابها والأهالي لا يملكون المال لترميمها حتى لو رممت ماذا عساهم أن يجنوا من ترميمها، إذ لا يملك الفرد منهم إلا راتبه يصارع به أهوال الحياة في عيشته،  أو منهم معاشه التقاعدي الذي يتقاضاه لا يغطي حتى ثمن علاجه المزمن في العيادات الخاصة وتكاليف معيشته، خاصة ممن أحيلوا إلى التقاعد الإجباري المبكر، وعليهم أقساط بنكية.

      الجيل الجديد جيل تكنولوجيا، جيل مدني،شغلته الحياة الحديثة، ومعظمه نزح إلى العاصمة مسقط حيث تتواجد الأعمال وحياة الرفاهية الحديثة،  ماذا يريد من القرية والتي لم تكتمل خدماتها؟... فهي ينقصها الكثير من الخدمات الأساسية كالمياه مثلاً، والصرف الصحي والمرافق العامة، فالسكك طافحة بمياه الصرف الصحي.

      إن عملية صيانة التراث الأهلي ليست بعملية سهلة، حيث ينقصها الكثير، ليس المال فحسب، بل التخطيط الإنمائي السليم قبل كل شيء. وربما يكون لبحوث الجامعات المحلية دور في تقديم الدراسات الميدانية، وتقديم الحلول المناسبة بدلاً من شراء دراسات جاهزة تعد  في المكاتب Desk studies. أحياناً أتساءل  لما لا نكون نحن ماليزيا؟ بدلاً من الاستعانة بها، ماذا ينقصنا؟ التعليم؟ أم أن لدينا ما نبذره؟ ثم نبرر ما أنفقتاه بالصخب الإعلامي.

      أتذكر طرفة مرت علي بعد تقاعدي بمدة بسيطة، ربما من ثلاث إلى أربع السنوات من التقاعد. كان لدي عمل حر احترفته بعد التقاعد،... لدي مكتبة تجارية أبيع فيها الكتب والمجلات والأدوات الكتابية والقرطاسين. وذات مرة قدم إلى مكتبي شاب ألماني مع زوجته، يريدان ابتياع خريطة السلطنة، فتأسفت لهما على نفادها، ورد علي الشاب بأنه قيل له أنه لن يجد محلاً في إبراء يبيع الخرائط السياحية إلا في مكتبة "طلاب المعرفة".

      لقد زادني كلامه اهتماماً أكثر لمساعدته، فقلت له توجد في منزلي خريطة واحدة لاستعمالي الشخصي، وإذا كنت غير مستعجل فأمهلني حتى الغد إلى الساعة التاسعة صباحاً إن وجدتها سأعطيك إياها مجاناً، لأنها تحتاج إلى بحث،ولست متأكداً من مكانها.

      فوافق على الفور، ورأيت الانفراج على وجهه وكأنه استعاد الأمل وأكد لي بأنه سيكون حسب الموعد، وشعرت بالمسؤولية فور مغادرته المكتبة، ولم أنتظر حتى الساعة الواحدة، عند غلق المكتبة كالمعتاد، فمنحت نفسي إجازة في ذلك اليوم للبحث عن مكان الخريطة في البيت وللوفاء بما وعدت.

      والحمد الله وجدت الخريطة دون أن أتعب في البحث، لكنها مليئة بالملاحظات الشخصية والخربشة، فجاءني الشاب في اليوم التالي ومعه زوجته، حسب الموعد بالثانية، فقلت لهما قبل أن أعطيكما الخريطة ما رأيكما  أن نتناول كوب شاي في منزلي؟ وأيضاً ربما قد تحتاجان إلى دورة مياه؟... لعلكما قادمان من مكان بعيد؟ لم يترددا فلبيا الطلب.

      وكنت مقيماً في البيت وحيداً، دون أسرتي التي ظلت مقيمة في مسقط، وفي البيت طلبت منهما الجلوس والانتظار في حديقة البيت تحت ظلال النخيل لحين تجهيز الشاي لهما، وأرشدتهما إلى دورة المياه الخاصة بالضيوف.

      لقد أعجبا من صنعي للشاي، وسألتني امرأة الشاب عن حالتي الاجتماعية، وحياتي الشخصية، وعن سيرتي الذاتية ولماذا أنا في هذا البيت الواسع وحيداً إلخ... فأجبت على أسئلتها وتحفظت على البعض منها، وسألتهما أنا أيضاً عن سبب زيارتهما لعمان، وعن زيارتهما بالذات لإبراء؟ ولماذا الإصرار للحصول على الخريطة؟

      فأجابني الشاب وقال:"أنا نجار، وزوجتي تصنع الفخار، أنا أجيد الرسم والنقش على الخشب، فلديكم في أبوابكم القديمة رسومات ونقش قديم، تتحدث عنه الناس عندنا ممن زاروا بلادكم والبلدان العربية الأخرى، وزوجتي صانعة ماهرة في الأعمال الطينية، ونود أن نصنع نفس الفخار الذي لديكم هنا وبيعه في بلادنا، حيث يوجد على شرائه إقبال شديد".

      فاستعجبت! مما قاله، وسألته لماذا يريد الخريطة، فقال: "من إبراء يود التوجه إلى ولاية نزوى، ومنها إلى بهلا حيث مكان صنع الفخار، وإلى نيابة سناو. فقلت له لا شك أن زيارتكما هذه لعمان ولمناطقها كلفتكما الكثير وأنتما مما يبدو من مهنتكما  أناس بسطاء، كيف استطعتما الحصول على المال لهذه الزيارة؟ فقال:"كان لدينا هدف فاستطعنا بعد خمس سنوات من التوفير في جمع المال" فأعجبت بما قاله، وقلت له:"إذا ترى أن بإمكاني مساعدتكما لا تترددا" فطلبت مني امرأته أن أوقع لها عبارات إهداء في الخريطة بغرض الذكرى، وأن أذكر فيها أسماء أولادي، وعندما كتبت الأسماء على الخريطة انبهرت المرأة عندما رأت اسم ابنتي يماثل اسم ابنتها "سارة".

      فهكذا الاهتمام بالحرف التقليدية لدى الغرب، لدينا وزارة تعنى بالحرف الوطنية،  بجانب الجمعيات الأخرى ولكن لا نرى ما تنتجه ظاهراً في السوق، بناتنا الصغار مازلن يلبسن الملابس الإفرنجية المستوردة التي تصنع في الهند أو الصين. وأولادنا كذلك يلبسون ألـ short  و T-shirt بالرغم من أن الزي العماني مرغوب، خاصة عند النساء إذ يتباهين بارتدائه في المناسبات والحفلات، لماذا لا نركز في إنتاجه بشكل تجاري أوسع باستخدام المَكَن الحديثة؟ بدلاً من تركه ليلعب في خياطته كل من هب ودب، يحرفون في تفصيله كما يشاءون. حتى أصبحنا لا نميز البعض منه؛ بين اللباس البنجابي ـ الهندي/الباكستاني، والدشداشة النسائية العمانية، لا في الثوب ولا في التطريز.

      نتمنى أن نرى المنتجات الحرفية العمانية بارزة في أسواقنا المحلية، وأيضاً في الأسواق الخليجية، من ملابس، وسعفيات، وفخار، وغيرها من المشغولات اليدوية، إذ ما يباع في سكة الظلام بسوق مطرح بصراحة ليست منتجات عمانية جلها مستورد من الهند. في الحقيقة سوق مطرح انقلب إلى بزار للمنتجات الهندية، هذا بجانب ما يباع من منتجات في المجمعات التجارية (الهيبرماكيت) من منتجات هندية، والزائر ما يراه عند تجواله في سوق مطرح من باعة ومنتجات وزبائن، لن يفرق بين السوق العماني والبزار الهندي، لا حاجة له لزيارة مدينة ممباي في الهند.

      نود أن نرى حضوراً للحرف والمنتجات العمانية في أسواقنا بشكل بارز وأوسع، ووجود أيضاً لمنتجاتنا الزراعية، حتى ولو على مستوى الخضار البسيطة والليمون والفاكهة التي اشتهرت بها عمان في الماضي. وهذا لا يتأتى إلا بتبني سياسة عملية على مستوى الفرد وليس على مستوى الشركات في الإنتاج الزراعي أي بدعم المزارع المتفرغ، وليس المزارع المتكل على الوافد أو من يؤجر مزرعته.

      إن تشجيع أصحاب مزارع الأفلاج ـ المزارع القروية ـ بالدعم النباتي والسماد والإرشاد الزراعي المستمر، وتوجيههم بالمنتج المناسب في الوقت المناسب، وتسهيل المعدات الحديثة للري لهم، بلا شك أنهم سيضيفون قيمة اقتصادية في السوق. وكما نعلم بأن الزراعة الحديثة في وقتنا الحاضر لا تحتاج إلى مساحات واسعة من الأراضي ولا أيضاً إلى قدر كبير من المياه باستخدام البيوت المحمية، ومساحات مزارع القرى التي تروى بواسطة الأفلاج فإنها توفي بالغرض.

       ونتمنى أيضا أن نرى حضوراً لوزارة السياحة بالتعاون مع البلديات الإقليمية، في تهيئة الأمكنة بالخدمات اللوجستية التي تساعد في استقبال السواح، لما لهذه المؤسسات الثلاث سالفة الذكر دور كبير في تنمية دخل الفرد، دون الحاجة إلى إهدار كثير من المال للاستشارات الأجنبية.

      حماسي هذا كغيري من المواطنين نابع من حبي وغيرتي الشديدة لبلدي، لقد زرت بلدان كثيرة ورأيت كيف أن الناس تحتال لمعيشتها، يجعلون من الأشياء البسيطة أهمية، ويصنعون منها ما يدر لهم دخلاً كبيراً، حتى من الخرز والمواد المهملة، كما رأينا في أفريقيا والفلبين وبعض دول شرق أسيا التي أصبحت مقصداً للسواح، هذه البلدان لا تملك ما نملكه من موارد طبيعية وزراعية وتراث، وبعضها نقل عنها كثيراً في تعداد السكان مع هذا لدينا الخير الوفير من الموارد الطبيعية... لكننا لا نحسن استغلالها إلا بمعاونة الأجانب مما يجعل استفادتنا منها قليلاً. و الفرق بيننا وبينهم في التفكير وللأسف في سوء التدبير لا نثق في قدراتنا، ونفكر كمن يفكر وهو الشبعان ليس بتفكير الجوعان... ليست "الحاجة [عندنا] أم الاختراع" هناك فرق في إدارة الموارد.

      هناك مقولة قرأتها في وسيلة التواصل الاجتماعي أرسلها لي صهري على (الواتس – أب)، لنبين الفرق بيننا وبين الغرب في إدارة الموارد فمثلاً: "‏تمتلك إثيوبيا 54 مليون بقرة، والسودان 42 مليون بقرة، ولكنهما بلدين جائعين بينما هولندا تمتلك 11 مليون بقرة ترضع العالم ....والسر هنا يكمن في الإدارة.

      والإنسان المحتاج، أو الجوعان يستطيع أن يحتال لرزقه بصنع شيء من لا شيء لكسب قوت يومه. وتحضرني هنا قصة مازلت أتذكرها بالرغم من أن مضى عليها أكثر من عقد من الزمن، قصها لنا أحد الضباط الغربيين الذي كان يلقي لنا محاضرة عن إدارة الأعمال، بغرفة التجارة والصناعة، عام 2003م.

      في البداية عندما عرفنا بنفسه كضابط بحري، وملحق تجاري في سفارة بلاده بالسلطنة أنا شخصياً استغربت؛ فقلت في نفسي "ما علاقة التجارة بقائد فرقاطة بحرية عسكرية"؟. لكن بعد أن سرد لنا الحكاية فهمت، قال: " أنا ضابط بحري، كنت قائداً لأحدى الفرقاطات البحرية، وذات يوم جلست أفكر ماذا هو عملي في هذه الفرقاطة؟ عدا إني أحمل السلاح أما أن أقتِل أو أقتَل، لأيديولوجيات قد أكون غير مؤمن بها،... تمضي الشهور وأنا لا أرى زوجتي وأبنائي. متى سأتفرع لهم؟ بعد التقاعد؟ أم بعد العجز؟" وأردف يقول: "عندما عدت إلى البيت رأيت زوجتي تقوم بصنع في وقت فراغها مشابك لربط شعر الرأس، وكل ما كانت تعمله هو أنها تشتري دبابيس الشعر جاهزة من السوق وتقوم بتزينها بالخلق بتصاميم مختلفة ثم تبيعها لجيرانها.

      وقد بدأت الفكرة؛ عندما عملت أول مشبك لإحدى بناتها وأعجبت به زميلات بناتها في المدرسة، ثم طلبن من الأم أن تعمل لهن مثله.

       وكانت الزوجة كما قال، تحصل على دخل لا بأس به من جراء عملها هذا، حتى كاد هذا العمل يشغلها عن أعمال بيتها اليومي. فخطرت له فكرة لماذا لا يستقيل أو يتقاعد ويقوم بتموين مشروع زوجته، وبما أنه عسكري لا دخل له في التجارة قرر أن يدرس ويأخذ شهادة في إدارة الإعمال (الماجستير) ألـ MBA" وهذا فعلا ما فعله و ما تحقق له.

      ومن أسبوع تقريباً أي في الأسبوع الأول من هذا الشهر يناير 2017 م سمعت في المذياع في برنامج قهوة الصباح نفس القصة عن مخترع دبوس الشعر، إذ حكت المذيعة بأن رجلاًً معزوماً لحضور حفلة، وبينما كان ينتظر زوجته أن تصفف شعرها، كان يلعب بسلك في يده. مرة يطويه، ومرة يثنيه على إصبعه (السبابة).

      وعندما انتهت زوجته من تصفيف شعرها، لم تجد ما تربط به الشعر، فأعطاها السلك اللولبي الذي أطواه على إصبعه لتربط به شعرها، وهكذا أتت فكرة دبوس الشعر (دبوس بكرة الشعر) hair roller.

      هناك مثل إنجليزي حفظته يقول: "الذي يأتي بسهولة يذهب بسهولة"easy comes easy goes والذي أعنيه هنا ما تقدمه الحكومة من دعم ومن تيسير للشباب إذا لم تكن لديهم الرغبة والحاجة، فإن هذا الدعم سيذهب سدى لا يستفيد منه أحد إلا الوافد. إذ لا يمكن للمرء أن يجمع بين وظيفتين معاً في نفس الوقت (بين العمل الخاص والعمل الرسمي العام)، حتى لو استطاع ذلك لن يخلص لهما، فمن لديه عمل رسمي في الحكومة أو في القطاع الخاص عليه أن يترك العمل الآخر لغيره، لكي يتقنه ويخلص له، والأمثلة كثيرة: "أحياناً عند  الحاجة تقف على الشارع العام مدة طويلة ولا تجد سيارة أجرة تركبها، بينما السيارات مركونة في المواقف مع سيارات الموظفين في انتظار ملاكها حتى خروجهم من الدوام الرسمي، أي سيارات الأجرة لا تُشَغل إلا عند تفرغ أصحابها (العمل حسب المزاج).

       وهذا الكلام ينطبق أيضاًعلى الموظفين ممن لديهم عملان يؤجرون سجلاتهم التجارية للأجانب لمنافسة أخوانهم.

      من وجهة نظري وبحكم تجربتي السابقة أرى أنه لا يمكن للمرء أن يجمع أو يدير عملين مختلفين في آن واحد دون أن يكون أحد العملين على حساب العمل الآخر... اللهم إلا من كان لديه من يعاونه، وفي هذه الحالة سنجد بلا شك أن الوافد هو من يقوم بهذا العمل الآخر تاركاً له صاحب العمل الحبل على الغارب.

      كيف لهذا الموظف أن يخلص في عمله الرسمي وهو لديه ما يشغله؟ أتذكر مرة قرأت حديثاًعن الرسول عليه الصلاة والسلام في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي بأنه روي عن  الإمام  البيهقي رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها  أنها قالت: "قال: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" وفي رواية أخرى (أن يحكمه).

      ولكي ننجح في أعمالنا في رأيي الشخصي لا بد من أن تكون لدينا قناعة أولاً بالعمل الذي سنقوم به، ومن ثم التفرغ له، وليس هذا فحسب بل أن ننميه بالتدريب والدراسة، تمشياً مع متطلبات السوق، وليس بما يناسب برستيجنا (الوجاهة). لقد رأينا ذلك في القصة السابقة كيف أستطاع ذلك الضابط البحري أن يحقق أحلامه ويتنازل عن عمله الرسمي؛ ليتفرغ لتربية أبنائه وينمي مشروع زوجته. والمتتبع لسيرة العمانيين السابقة، سيرى أن ذلك ليس بغريب عليهم، معظم تجارتهم وأعمالهم كانت تجارة وأعمال عائلية؛ (بمشاركة أفراد الأسرة). والمهن كانت تورث آب عن جد، ذلك كان سبب نجاحهم، وليس بالاعتماد على العمالة الوافدة.

      1. عبد الله السناوي - شارك