-
-
في الصورة الثانية يظهر محل الوالد "لبيع المواد الغذائية والأدوات المنزلية والكماليات – متجر السناوي"، كما يظهر في الصورة سيارته (باص – سيارة نقل)، لنقل البضائع، ويبدو والدي في الصورة يتحدث مع أحد الباعة، و في الصورة الأولى واضح نشاط المحل على اللافتة، وعلى الممر لافتة المكتبة. تاريخ التقاط الصورة 23/سبتمبر من عام 1996م
من متجر 23 يوليو إلى مؤسسة السناوي –د ت(1)
عندما عدت من مشواري وجدت أبي في البيت... في بيتنا بدراسيت،ينتظر والدتي لتكمل له تحضيرالقهوة (قهوة الظهيرة)، وهو تقليد متبع في عمان الداخل في الماضي، أن تتناول الأسرة وجبة خفيفة قبل صلاة الظهر،وهي عبارة عن قهوة عمانية سادة مع تمر، أو رطب إذا كان في وقت القيظ ، وأحيانا يستبدل التمر بأقراص الخبز العماني الصغير (الغراميل) يأكل مع العسل، أو سيويا (الشعيرية) وتقلى السيويا بالسمن الصافي مع حب الهال وذر السكر.
وعندما دخلت البيت استقبلني والدي بابتسامة عريضة، جالس في الفراش على الأرض، وأمامه القهوة، كأنه ينتظر مجيئي بشغف، وكالعادة عرفت بأن لديه ما يقوله لي، طلب مني الجلوس لمشاركته في تناول القهوة، وقبل أن يقول أي شيء بادرته بالسؤال:
- هل وفقت مع وزارة التجارة؟
- نعم.
- ولكن يريدون منا أن نبحث عن اسم آخر غير 23 يوليو لقد سبقنا غيرنا في هذا الاسم.
- بعد كل هذه المدة من وضع اللافتة؟
- لقد غلطنا تباطئنا في عملية التسجيل.
- لكن لم تكن مشكلتنا كان لا وجود لوزارة التجارة؟
- على كل حال، وكالعادة ساعدني لنبحث عن اسم، سهل ومقبول.
وبعد تفكير طويل ونحن نرتشف القهوة قلت له: "ما رأيك بالسناوي فقال: "فعلاً كيف غاب عن ذهني اسم قبيلتنا؟". ما أن انتهينا من القهوة حتى حمل أوراقه وحقيبته السوداء "سمسونيت" وخرج مسرعاً ليلحق الوزارة قبل أن تقفل. هكذا كانت بداية ميلاد مؤسسته "مؤسسة السناوي".
ومن سيقرأ في مذكراتي السابقة (ذكريات 27د)، سيرى كيف تطورت تجارة والدي من متجر صغير إلى مؤسسة، وكما ذكرت بأن الفضل الأكبر يعود بعد الله - سبحانه وتعالى ـ في إنشاء هذا المتجر الصغير لأخي علي، الذي بدأه ببيع البسكويت لأولاد الحارة بحي دارسيت.لاحظ أخي بأن السكان يحبون أكل البسكويت المالح مع الشاي في الصباح، وعندما ترسله والدتي لشراء السمك في الصباح من مطرح يأتي معه بغلاف من علب البسكويت، يبدأ بيعها لأولاد الحارة، وبالتدريج... ونظراً لعدم وجود دكان في الحي، فقد أقبل الناس يشترون ما يأتي به أخي حتى أصبح يبيع أشياء أكثر من بسكويت، بل ما يلزم ربات البيوت من أغراض في ذلك الوقت: (كعلب صلصلة الطماطم، والملح، والحليب المعلب، والشاي، والسكر إلخ..)، وعندما عدنا للدراسة إلى أبوظبي بعد قضاء عطلة الصيف، اهتم والدي بتطوير المتجر بسبب حاجة الأهالي إليه، وهكذا إلى أن كبر المتجر.
وقد تفرغ والدي لهذا المتجر بعد استقالته من عمله الرسمي، إذا كان لا يتناسب عمله مع ظروفه العائلية آنذاك، ففضل الدخول في العمل الحر، وبفضل الله ـ تعالىـ وخبرته السابقة التي أكتسبها في أفريقيا كما ورد في المذكرات السابقة، وبقليل من الجهد والصبر، استطاع أن يقف على رجليه، فأضاف في سجله التجاري نشاط المقاولات، وأول بيت بنته مؤسسته هو بيتي بحي وادي العدي، وبتمويل من بنك الإسكان، إذ كنت من أوائل الذين حصلوا على قرض إسكاني من هذا البنك في أواخر السبعينات، بعد أن استقررت في العمل.
وأثناء وجودي في بريطانيا لمتابعة دراستي الهندسية، كنت على اتصال دائم كتابياً مع والدي؛ للاطمئنان علي سير عمله، إذ يكاد لا يمر أسبوعاً واحداً دون مكاتبة (مراسلته )، واستطعت أن أخمن من خلال الرسائل المتبادلة بيننا إن كانت الأمور غير مستقرة معه، اذ يبدو هناك تخلف في دفع الإيجار من مستأجري بيتي في وادي العدي، الذي شيده من الخشب إثناء تواجدي في بريطانيا.
وفي لندن كنت أزور المعارض و(السوبر ماركيتات) supermarkets المحلات الشاملة، كما كان يطلق عليها في ذلك الوقت، آملاً عند عودتي سوف أطور تجارة أبي، حتى أتذكر بأني طلبت من صاحبة البيت أن تعمل لي ميعاد مع شركة NCR الشركة المشهورة في تصنيع "آلات تسجيل المدفوعات النقدية" cash register وفعلاً قابلت البائع من أجل معرفة كيف تعمل هذه الآلة في ضبط عملية البيع.
وعندما انتقلت إلى إيطاليا، للتدريب العملي، كنت أقابل كثير من التجار الأفارقة، من اريتريا ومن قبرص تلك البلدان التي لها تعامل مع الطليان، يعرضون علي خدماتهم، وكتبت لأبي، لكن أبي كعادته لا يتخذ القرارات الصعبة بسرعة.
وبعد عودتي إلى عمان بفترة وجيزة ومن خلال مراجعتي لوزارة الأراضي (الإسكان حالياً)، قابلت مهندساً عمانياً من مواليد أفريقيا يعمل استشاريا بالوزارة، وسألته إذا كان باستطاعته أن يدلني على مكتب استشاري لعمل الخرائط فعرض علي مكتبه الخاص، سلمته الأوراق. وبعد مدة استلمت منه رسومات البيت، وتقدمت لقرض إلى بنك الإسكان الذي كان في بداية عهده آنذاك، وفور الموافقة أعهدت لمؤسسة والدي القيام بالبناء وكانت تلك أول خطوة يدخل فيها والدي مجال المقاولات ـ والحمد الله ـ كانت تجربة ناجحة.
ولما علم الناس عنه، وراو جودة عمله خاصة موظفي شركة تنمية نفط عمان، تراكمت عليه الطلبات، سواء أكان لإجراء صيانة مساكن قائمة أو إنشاء مساكن جديدة. بدءاً من حي وادي العدي، إلى العامرات وامتد عمله إلى سيح الظبي. ومن ثم إلى إبراء بعد استيلاء الحكومة على أرض دارسيت للمنفعة العامة، كما سبق ذكرها.
وقبل إخلاء الأرض بدارسيت في مارس من عام 1985م كان لابد من البحث عن سكن للعائلة، وفي ذات الوقت إيجاد محل لتجارته، هنا شعرت بالمسؤولية، إذ لابد من إيجاد حل فوري واقتصادي، ولم أجرؤ أن اسأل والدي عن حجم مبلغ التعويض الذي حصل عليه، ولكن استطعت أن أخمن بأنه كافِ لاستئجار محل وبيت، وغير ذلك...
بحكم صداقتي وتقربي مع مدير عام الخدمات العامة بالشركة التي كنت أعمل بها، استطعت الحصول على مسكن مؤقت مجاني لعائلتي لحين ترتيب أوضاع والدي، ففي خلال تلك المدة التي سكنا فيها بسيح الظبي في البيت الذي أمن لنا من طرف العمل؛ استطاع والدي أن يكمل بناء بيت أخي علي بالخوير ومن ثم انتقلنا فيه، وبعد مدة وجيزة اشترى والدي أرضاً بالخوير، بالمبلغ الذي عنده وبنى بيته...لتستقر العائلة فيه. ولم أحظَ أنا بالسكن فيه، إذ كنت في ذلك الوقت أي في عام 1986 م قد تزوجت وانفصلت عن العائلة في بيت مستأجر، مستقل بذاتي في منطقة الحيل بولاية السيب.
وبما يخص ترتيبات المتجر، ذكرت لزميل لي من سكان حارتنا بإبراء ـ حارة سيح العافية، فعرض علي محله؛ الذي كان متجانساً مع نشاط تجارتنا لبيع المواد الغذائية، وكان موقع المحل بروي مقابل مدرسة روي، فوافق والدي بعد معاينة المكان.نقلنا تجارتنا الى هناك، وبمرور الوقت اكتشف والدي بأن المكان لا يصلح أن يكون لبيع المواد الغذائية وربما كان ذلك هو السبب الذي دعا مالكه السابق للتخلص ببيعه لنا. فقام والدي أيضاًببيعه، وانتهت هنا تجارتنا وبقت مجرد نشاط تجاري مسجل في السجل التجاري.
بعد فترة وجيزة وجدتُ لوالدي بعد ذلك محل آخر يصلح أن يكون مكتباً للمقاولات، يقع على الشارع العام مقابل معسكر بيت الفلج - بعد تقاطع طريق مطرح، بالدور الأرضي في عمارة يملكها المرحوم الشيخ سعيد بن حمد الحارثي، زكاه لنا أحد الزملاء من الجماعة؛ ممن زاملتهم في المدرسة بإمارة أبوظبي، حيث لديه مكتب مجاور يشاركه فيه أخوه، افتتحاه حديثاً بعد تخرجهما لتقديم الاستشارات الهندسية، فقبل والدي بالفكرة لكونه يعرف الشباب، فهما من الجماعة، وأيضاً يعرف صاحب العمارة وأخاه (الشيخ المرحوم سالم بن حمد) اذ كانا من أصدقاء المرحوم والده.
اجتهد والدي بتأثيث المكتب بما يليق بموقع المكان بقدر الإمكان، ولكن كان المكتب مجرد (برستيج) لا غير؛ اذ لا يغطي قيمة إيجاره، وأيضاً كون أعمال المقاولات بها معدات وسكن عمال، خلاف ذلك فالمكتب غير جاذب للزبائن، كما لدى والدي ارتباط اجتماعي لخدمة بلده، فهو من الأعيان الذين يستشارون في تنمية الولاية، مما يجعله يذهب إلى إبراء كلما تطلب الأمر لمقابلة الوالي.
كان غير متفرغ للجلوس في المكتب وليس لدى منا نحن أبناؤه وقت لمعاونته، الكل مرتبط بعمل، فكان يشرف على أعماله بنفسه، ومعظم وقته يقضيه في ميدان العمل في منطقة العامرات، وسيح الظبي، فقرر إغلاق المكتب ونقل جميع أعماله إلى إبراء.
وكان المكان غير مهيء في إبراء لتسكين عمال مقاولات، إذ كنا نسكن عندما نذهب إلى هناك في البيت الذي شيده والدي بداية سنة السبعين من ألواح الخشب المضغوط المعروف محلياً (البلاي وود) plywood كمأوى سريع، إذ بعد أن أستقر سكن والده ووالدته في بيتهما ـ بيت الحدري، وإعادة البيت الشرقي الذي كنا نسكنه للورثة.
سبق أن كتبت عن هذين البيتين بإسهاب وعن مراحل بناء بيت الوالد السابق الذكر الذي أسماه "صلالة" تيمناً بسنين كفاحه في جبال ظفار،(يرجى مراجعة ذكريات ـ 14د، وذكريات ـ 15د، وذكريات ـ 12د في هذا الموقع).
البيت الحدري يتكون من ثلاثة أجزاء: الجزء العلوي هو الجزء الذي كان أصلاً لجدتي والدة والدي ورثته من أبيها، والجزء الأوسط الذي اشتُرِيَ فيما بعد وشيد والدي مسكناً لنا، والجزء الحدري الذي اشتراه جدي صالح من أحد الجماعة المقيمين في أفريقيا بأوغندا. وفي الثمينات دمجت الأجزاء الثلاثة، دون تغيير معالمها، وعندما نقل والدي أعماله إلى إبراء جعل الجزء الحدري مسكناً لعماله، إلى أن تم نقلهم فيما بعد إلى بيته المسمى (صلالة)، بعد أن شيده من وحدتين: مسكناً له ومسكناً لنا (أولاده)، ومسكنا آخر للعمال، مع مخزن لأدوات البناء. وعندما توسعت العائلة، نقل العمال إلى الأرض التي يملكها أخي علي، على مدخل شارع سيح العافية من ناحية الشرق المتفرع من الشارع العام .
وفي ذات الوقت الذي كانت تجري فيه أعمال المقاولات، يديرها والدي من بيته، أستعاد الوالد نشاطه التجاري بإنشاء (السوبر ماركت)، وكان ذلك بعد حصوله على نصيبه من قسمة الأرض التجارية التي اشترك في شرائها مع مجموعة من أصدقائه، وباعوا الجزء الأكبر منها على مجموعة من الأهالي، وقسمت على هيئة قطع صغيرة مكونين بذلك دكاكين سوق سفالة إبراء الحالي.
خصص والدي ستة دكاكين من نصيبه ودمجها مع بعضها خصها لبيع المواد الغذائية، والأدوات المنزلية والكماليات (السوبر ماركت)، وبناءً على نظام اللافتات التجارية الجديد بالبلدية غير المسمى إلى "متجر السناوي" واشتهر محله بهذا الاسم الأخير. وخصص في الدكانين الملاصقة لهذا المحل بيع الأدوات الكهربائية والساعات.
وبفضل سمعة والدي الطيبة، وتضحياته لمجتمعه، أحبه الناس وتوسعت تجارته، وأصبح لديه عدة محلات بالسوق الذي سبق ذكره، بجانب المحل لبيع المواد الغذائية منها: (محل لبيع الأدوات الكهربائية والإلكترونية، ومحل اللحوم، ومنجرة، ومحل خياطة)، هذا بجانب المقاولات. إلا أن ارتباطه بعدة أمور محلية، منها خدمة المجتمع، على سبيل المثال: عضويته في لجان محلية عدة، ورئاسة فرع غرفة التجارة والصناعة، وتبنيه رئاسة إدارة النادي السابق: (نادي إبراء الرياضي)؛ انشغل عن تجارته، خاصة لعدم وجود أحد منا من يعاونه؛ لارتباطنا بأعمالنا الرسمية في مسقط. وأتكل في إدارة أعماله على العمالة الأسيوية الوافدة في إدارة محلاته، وإدارة المقاولات، هذا بجانب المنافسة الغير الشرعية من قبل العمالة الوافدة، المكفولة من قبل (موظفي القطاع العام وقطاع الخاص)، تمارس تجارة مستترة، تفشت في ذلك الوقت.
بالرغم أن والدي كان يبذل قصارى جهده هو ومن معه في إدارة الغرفة، وإدارة التجارة، لتوعية أرباب العمل عن خطورة تسريب العمالة الوافدة، و خطورة تأجير سجلاتهم التجارية لهذه العمالة، لممارسة الأعمال التجارية دونهم، ومنحها صلاحية استخدامها، مقابل مبلغ زهيد يدفع لهم كل شهر.
- عبد الله السناوي - شارك
-