1. من متجر 23 يوليو إلى مؤسسة السناوي –د ت (2)

      ومما ساعد على نمو "التجارة المستترة" بالإضافة إلى ما سبق؛ هو تعاون هذه العمالة بينها:(تعاون طائفي)، فكان مندوب المبيعات أسيوي، وعندما يوزع البضاعة يعطي الأولوية لبني جنسه قبل العماني، وبامتياز ائتماني أوسع. ولا يُنَزل بضاعة للتجار العمانيين  إلا إذا كانت قد قرب انتهاء صلاحيتها، و كان هذا المندوب يتصرف كمن يملك البضاعة؛ ليس كمندوب للشركة التي  انتدبته، والسبب هو أن مديرها أجنبي مثله،  ولعله من بني جنسه، أو ربما مديره من بني جنسه من يملك الشركة.

      كما نعلم بأن موردي المواد الغذائية في عمان وموزعيها على الباعة هم فئة قليلة لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة ومعروفون لدى الجميع هم قدامى في البلد، من أصول غير عمانية رسخت جذورهم في هذا النوع من التجارة. وبهذا الأسلوب غير العادل، حتى أنه ضجت القرى بالتجار الوافدين، وأصبح التاجر العماني لا يملك في محله ما يوفي حاجة زبائنه، واضمحل متجره، فانصرفت عنه الناس، مما أدى إلى إغلاق المحل والعمل كسائق لدى هذه الوافدة... بالرغم من جهود الحكومة المبذولة  في تعمين مهن البيع ، إلا أن أسلوب التحايل على القانون طغى وأصبح  أقوى مما نتصور، بسبب جهل بعض كفلاء هذه  العمالة الوافدة أو أن تجاهلهم، خاصة ممن يملكون (الواسطة) من موظفي القطاع العام.

       وإلى يومنا هذا تجارة الكماليات والأدوات المنزلية وبالذات المواد الغذائية مقصورة على الشركات التي تملكها عمالة وافدة بمسميات مختلفة تحت بند قانون الاستثمار الذي أتاح لها ذلك، وبقي العماني يعمل في هذه المحلات أجيراً براتب زهيد، خاصة في المحافظات الداخلية، التي كثر فيها محلات (الهيبر ماركت) الاسم المعدل لمسمى "محلات بيع المواد الغذائية" التي كانت ملاكها العمانيون.

      تأثرت محلات والدي من هذه المنافسة، وكان عندما يأتي مندوب المبيعات إلى المحل يحاول استمالة البائع في المحل ويطلب منه الانفراد بالمحل أسوة كغيره، وعندما يرى فيه الولاء لأربابه لا يُنَزل بضاعة؛ ينصرف بحجة أنه لا يأمن من العماني صاحب المحل، فالبضاعة محسوبة عليه كما يدعي؛"خوفاً من ارتجاع شيكات الإئتمان المؤجلة وأنه سيتوه في المطالبات اللا نهاية لها". 

      فهزل محل والدي من البضاعة، أتذكر كلما كنت أذهب إلى إبراء لأتفقد سير العمل أجد البضاعة تنقص، وعندما اسأل البائع عن السبب، يبرر بأن المندوب لم يأت أو أننا  "تأخرنا عليه في السداد وذهب" وكان المحل في بعض الأحيان لا تجد فيه علبة بارد. ورأيت لا بد من تدخلي تدخلاً مباشراً في تولي إدارة المحل، وكان هذا ما يخيف البائع،هو سحب الصلاحيات عنه، إذ أوهم الوالد بأن عليه الاعتماد؛ في كف شر ووقاحة المندوبين المتعجرفين، ووثق فيه والدي لكونه قديم معه من عهد المحل بدارسيت، هو وعدد اثنين من زملائه، وخانت والدي الصحة، لم يعد لديه القوة الكافية في قضاء وقت أطول في المكتب كما كان يفعل في السابق، في ترتيب الحسابات.

      قمت بتركيب جهاز فاكس واتفقت مع والدي، على أن يقوم البائع بإرسال كشف المبيعات والمشتريات اليومية بالفاكس إلى منزلي بمسقط لأقوم أنا بتولي حصر المدخولات والمصروفات باستخدام كمبيوتري الشخصي، وفعلاً نجحت الفكرة كنت أقضي ساعتين في اليوم، في تدخيل البيانات التي ترد إلي عبر الفاكس، وفي نهاية الشهر أعطي والدي كشفاً بما تم شرائه وبيعه خلال الشهر.

      وفي نهاية العام كنت أحضر شخصياً الجرد السنوي للبضاعة في المحل، وأدخل تبياناتها في الكمبيوتر، فوجدت هناك فرقاً شاسعاً بين البيانات الدفترية وما هو موجودٌ في المحل كأن البضاعة حولت إلى مكان آخر ليس هناك توافق بين ما يشتري وما يباع، فاتضح لي الخطأ.

      وعندما كنت أجلس مع والدي لمناقشة الموضوع أحس كأنه يقول لي: "لا يستطيع عمل أي شيء"، وعندما الح عليه بالأسئلة أرى ملامحه تتغير، ويفضل أن نتحدث في شيء آخر يلهيه عن هموم التجارة. لاشك كنت أعلم بأن والدي كان يدعم أنشطة الشباب الرياضية، وغيرها من موازنة المؤسسة؛ خاصة عندما تكون هناك سباقات رياضية، حيث يرى هذا من واجبه اتجاه رئاسته لإدارة النادي. هذا  خلاف المشاريع الأهلية الأخرى التي ساهم في تمويلها أو تبنت مؤسسته تنفيذها، حتى تكاد أن  تكون بعضها أحياناً مجانية، بسبب إخفاق التبرعات. وقد علمت من بعض الشباب مؤخراً بعد وفاته؛ بأنه كان يساهم في تأثيث أو بناء غرف لمساعدتهم في تخفيف تكاليف الزواج.

      قضى والدي معظم فترة عمله التجاري في إبراء وحيداً، إذ كان ليس بإمكان والدتي المكوث معه كل الوقت، فكانت بين حين وآخر تقيم في مسقط، لظروف صحية، ولوجود بعض أخواتي لرعايتها هناك. فوالدي شخص عصامي، مضحي، صقلته الحياة، جندي مجهول، يتحمل كل شيء،  فقد أكتسب من العسكرية خبرة الصبر والكفاح وعدم الاستسلام لمذلة الدهر، يعرف كيف يهتم ويخدم نفسه، فهو بجانب مهارته في العمل،فإنه طباخٌ ماهر. عندما أذهب لزيارته للاطمئنان عليه والإطلاع على أعماله؛ يفرح، ونتقاسم أعمال المطبخ فهو يطبخ وأنا أغسل الأواني، وعندما تكون والدتي هناك نقضي نحن الثلاثة (رمسة) مليئة بالفكاهة تنسى والدي هموم عمله، كنت  مسلياً له...كثير الرغي.

      في الفترة بين بداية التسعينات ووسطها ...في الفترة التي توفي فيها جدي صالح، فتحت محلاً تجارياًلبيع الأدوات الكتابية والقرطاسية،والذي تحول فيما بعد إلى محل لبيع الكتب (مكتبة)، في المحل الذي كان به تباع "الأدوات الكهربائية" الملاصق لمحل "بيع المواد الغذائية والكماليات" السابق الذكر، بعدما أن تقلصت تجارة والدي.

      ونتيجة اهتمامي الزائد بهذا المحل، وتحقيقاً لرغباتي بأن يتحول المحل في المستقبل إلى مكتبة لبيع الكتب، وفقت بحمد الله - تعالى، وتحقق حلمي لأساهم بذلك في نشر ثقافة القراءة في إبراء، بعد أن حصلت على الترخيص لبيع الكتب، وكان هذا الحماس أعطاني دفعة لزيارة إبراء أكثر من ذي قبل، وأيضاً لتوصيل الكتب للمكتبة، وفي نفس الوقت اتفقت مع وكلاء الصحف لبيعها في المكتبة،إلى أن غدت مكتبتي مكاناً لارتياد المثقفين. لكن أخذ الوضع يتدهور في تجارة والدي إلى أن وصل الوضع أن باعَ المحلات الأخرى، ولم يتبق له من التجارة عدا محل "بيع المواد الغذائية"، فتأثرت تجارتي أيضا بتأثر تجارة والدي، بسبب استخدام للسيولة التي ترد لمكتبتي؛ في سد رمق الدائنين، هنا قرر والدي التخلص أيضاً من المحل الذي بدأ يحتضر، خاصة عندما حاصرته ديون البنوك.

      وفي عام 1997م بدأنا بعملية البيع وتوليت أنا مهمة التفاوض، وكنت مفاوضاً جيداً مع المشتريين، فاستطعنا أن نحصل على المبلغ القريب من الذي كنا نتوقعه . وتلى ذلك بيع بعض الأصول، لتكملة باقي الديون البنكية، وبقيت المكتبة قائمة بدون كتب بعد نقلها إلى الدكان الخلفي، فجلس فيها بائع أسيوي من قدامى موظفي أبي تحت كفالة أخي، إلى أن تفرغت لها بعد تقاعدي في عام 2003 م.

      وظل أبي متمسكاً بإعمال المقاولات؛ لكن على شكل خفيف، إلى أن توقف عن العمل وتفرغ لأمور دينه، وتكفلت أنا بباقي الالتزامات بمساعدة أخوتي في  بعض منها. وكانت من أصعب المهام التي أوكلت إلي عند تصفية المحل؛هي مجابهة اللصوص فاكتشفت بأن محلنا كان عبارة عن (دكان داخل دكان) أي ما يباع داخل محلنا كان لغيرنا:(لمندوبي مبيعات الشركات) بالتواطؤ مع عاملنا داخل المحل، وعندما بدأت  بعملية التصفية  ظهرت الفئران من مخبئها، كل من يدعي له حق، فوضعت لهم شرطاً لحسم المطالبات المشكوك فيها وهو:"من ليس لديه شيكات مؤجلة محررة من طرفنا أو عقد تمويل مبرم، لا ندفع له إلا عن طريق القضاء، وأي اتفاق تم بين البائع عندنا في المحل ومندوب مبيعات أي شركة شفوياً نعتبره اتفاقاً شخصياًو إدارة مؤسستنا غير مسئولة عنه).

      وفي أواخر عام 2008 م استقر والدي بشكل نهائي في مسقط بسبب المرض الذي أثقله، إذ لم يعد يستطع العيش في إبراء لوحده دون وجود أحد منا معه، إلى أن أختاره الله ـسبحانه  وتعالي ـ  في الثاني من  نوفمبر من عام 2008 م.

       ولما كُلفتُ بأن أكون الوكيل للورثة أنهيت كل شيء بما يتعلق بالتجارة والمقاولات، إذ ليس هناك من جدوى الاستمرار، في ظل تفشي التجارة المستترة، والمنافسة الغير العادلة، والتحايل على القوانين والأنظمة؛ إذ ليس من العدل أن يسد بعضنا طريق الرزق عن أخيه، يتمسك في  الامتيازين، الوظيفة الرسمية، والسجل التجاري لتسريح عمالته؛ لمنافسة أخيه. .

      1. عبد الله السناوي - شارك