1. على اليمين بيتنا السابق في حي دارسيت حتى منتصف الثمانينات، قبل أن نخليه للحكومة لتقيم على أرضه مبنى رئاسة بلدية مسقط، ويتضح من الصورة جلياً الأشجار التي مازالت قائمة إلى وقتنا الحاضر على مدخل مبنى البلدية.

      النظافة من الإيمان

      هناك بعض العبارات تلتصق في الأذهان ولا تنسى بسرعة، بل ترافق الإنسان مدى الحياة حتى لو شاخ، أتذكر مثلاً عبارة "النظافة من الإيمان"، التي كانت ترددها لنا والدتي كلما عاندنا أو تكاسلنا عن الاغتسال في الصباح؛ أو عندما ننهض من النوم، خاصة عندما يكون الجو بارداً أو عندما يطلب منا الاستحمام عند صلاة العصر.

      ولما دخلت المدرسة وجدت هذه العبارة تلاحقني، يرددها لنا (الأستاذ مربي الصف)، والمدرس المعني بتفتيش طابور الصباح بالمدرسة عند تفتيش الطابور ليتأكد من نظافة الطلاب قبل دخولهم الصف (التأكد من قِصَر شعر الرأس، والأظافر ونظافة اللباس ولمعان الحذاء... إلخ) كان ذلك عند بداية التحاقي بالمدارس النظامية الحكومية بإمارة دبي. هكذا رسخت في ذهني تلك العبارة وأصبحت جزءاً من تراثي وذكريات شقاوة طفولتي.

      وكانت المدرسة تنظم بين فترة وأخرى فعالية أو مناسبة تسميها فيما أظن "يوم النظافة أو أسبوع النظافة" يتسابق فيها الطلبة ويكرمون على ما أنجزوه من عمل تطوعي في ذلك اليوم  كتنظيف فناء المدرسة والشارع المؤدي إليها، أو تجديد طلاء أعمدة لافتات المرور، أو أرصفة الشوارع إلى غير ذلك من الأعمال المفيدة للمجتمع.

      أتذكر ذلك اليوم يكون حافلاً بالمنجزات، الكل مشغول كخلية نحل، منهم من يخط اللوائح، ومنهم من يرسم ومنهم من يصبغ... إلخ، وكانت تتصدر جدران المدرسة أحياناً لافته بها هذه العبارة: "النظافة من الإيمان" وغيرها من العبارات الإرشادية والتحفيزية، وكنا نشعر بالسعادة عند لحظة التكريم ليس بقيمة الجائزة؛ بل بما أنجزنا من عمل بجدارة.

      وتمر الأيام، وانشغلنا بهموم الحياة، وعندما التحقت بالعمل في عام 1975م بعد تخرجي من القاهرة، عملت بمكتب التلغراف في مدينة مسقط وكان اسم القسم يختصر بالإنجليزية في ذلك الوقت بـ CTO اختصاراً لمسمى "مكتب التلغراف المركزي"، وكنت حينها وفي ذات الوقت فني بقسم المراقبة والصيانة، ومن مهام عملي فحص خطوط التلكس في الصباح للتأكد من صلاحيتها، وكان يمر علي أثناء تفحصي لخطوط المشتركين اسم public work وبقيت هذه العبارة مدة في ذهني لم أتأكد من ترجمتها إلى أن ناقشت معناها مع زميلي الهندي يدعى Toni Alvares الذي أتبادل معه المناوبة، وفهمت منه بأنها دائرة تعنى بالأشغال العامة (أعمال البلدية).

      لسبب ما من الأسباب... ولست متأكداً، ذات مرة زرت هذه الدائرة؛ ربما لمراجعة معاملة استخراج تصريح بناء بيتي في منطقة وادي العدي، وأتذكر موقع هذه الدائرة، كان في عمارة من طابقين، في المكان الذي به وزارة المالية، على زاوية الشارع المؤدي إلى مبنى السفارة البريطانية، ومستشفى مسقط سابقاً، ومقر عملي السابق، الذي يقع في نفس المكان خلف المستشفى. على كل حال... هذه المقار لقد انتهت، لم تعد موجودة حالياً هدمت  ودمجت مساحتها وأصبحت جزءاً من مباني مرافق قصر العلم.

      وبعد فترة وجيزة، علمت بأن واحداً من جماعتي التحق بمؤسسة حكومية، تسمى "بلدية مسقط" ولم أكترث لمعرفة المزيد عن هذه المؤسسة، إلا أن المسمى لم يكن غريباً بالنسبة لي، كنت قد سمعته من قبل خاصة عندما يأتي الحديث عن بلدية لندن ورئيسها (عمدتها)، وأحياناً هذا المسمى يأتي في كتب دراسة منهج اللغة الانجليزية "Mayor" أي عمدة (رئيس البلدية)، إذ لهذا الاسم أهميته ومكانة لدى المجتمع البريطاني، وعادة من يتقلد مثل هذه المناصب في الماضي من النبلاء، وفي عصرنا الحاضر يتقلده من  ينال لقب (سير) تمنحه له الملكة.

      وكنت أمر أمام مبنى البلدية كل يوم عند ذهابي للعمل في مسقط، وكان ما يلفت نظري في هذا المبنى بساطته (أبيض اللون- دور أرضي مقوس) يقع مقابل دروازة مسقط، على زاوية مدخل الشارع المؤدي إلى مكتب البريد والبنك البريطاني سابقاً.

      في الحقيقة ما جعلني التحدث عن البلدية هناك ارتباط بين الكلمة التي رسخت في ذهني "النظافة من الإيمان" وأعمال البلدية، لقد بحثت عن مصدر هذه العبارة (دون اجتهاد) ولم أحصل على نتيجة سريعة، إذ تُهت بين فتاوي الفقهاء.

      ولكن ما وجدته في موقع "إسلام أون لين" بأنه "جاء في إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ج1 ص111 في أوَّل كتاب أسرار الطهارة قوله: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ"بُني الدِّين على النَّظافة" وقال " الطهور نصف الإيمان".

      فأنا أكتفي بما جاء عن الإمام الغزالي، فالعبارة التي حفظتها والحديث الذي جاء في كتاب الإمام الغزالي، كلاهما يشيران بالمعنى إلى النظافة، فالطهارة من النظافة والطهارة نصف الإيمان.

      والسبب؛ بأنني لست بصدد إيجاد تفسير للعبارة التي علقت في ذهني منذ الصغر ولكن كل ما أردته من هذه المقدمة هو تمهيد فيما أود التحدث عنه:

      أظن أن هناك كثيراً ممن كانوا مثلي، لا يعلمون عن الأعمال التي تقوم بها البلدية، أو المهام المناطة إليها، فالبلدية لديها مهام كبيرة وعديدة وجليلة مسئولة عن تنفيذها، وهي بمثابة حكومة محلية مصغرة في بعض البلدان، وتختلف مهام البلدية باختلاف أنظمة الحكم، وفي مدينة لندن على سبيل المثال وربما فرنسا أيضاً. وعُمدة البلدية في بعض دول الغرب له مركز اجتماعي ويكون قريباً من النبلاء، والأغنياء، أسوة بما يقدمونه من تبرعات في سبيل تطوير مدينتهم.

      يمكن تشبيه عُمَد البلديات في بلدان الغرب كالولاة عندنا في المحافظات، فهم قريبون من الأهالي والأعيان والشيوخ والتجار في الولاية،  يكاد بعض الولاة يعرفون تجار الولاية وأعيانها بأسمائهم، فرداً فرداً.

      فالوالي مسئول عن تطوير الولاية، واحتياجاتها من الخدمات والمرافق العامة، وذلك بالتنسيق مع جهات الاختصاص، ولكن ما يفرق عُمَد البلديات في الغرب عن الولاة في بلادنا هو أن الولاة في بلادنا ليس لديهم استقلال مالي وإدارة ذاتية في تطوير وتنمية ولاياتهم اقتصادياً؛ عدا كونهم همزة وصل بين الأهالي وجهات الاختصاص، ويرأسون اللجان المحلية، ويرعون المناسبات.

      على كل حال، يمكن تشبيه أعمال البلدية "كالمزين" الذي يعنى بمظهر الناس، ومهام البلدية عديدة، منها: تطوير المدن وتنظيم بناء المباني وتوفير الطرق وإنارتها، وتجميل الشوارع بالأشجار وبسط المسطحات الخضراء، وتوفير الحدائق العامة وإدارتها، والمحافظة على نظافة المدينة والبيئة بشكل عام، ووضع اللوحات الإرشادية وتنفيذ المخططات للمواطنين وتنظيم الأسواق و تصريف مياه الأمطار والمجاري والمحافظة على الصحة العامة من خلال رش المبيدات الحشرية وتوفير صناديق القمامة. وتقوم الدولة بتخصيص ميزانية ضخمه للبلدية من أجل التطور وتحسين مظاهر المدن.

      تتكون البلدية من أقسام عدة استطعت أن أجمع المعلومات عنها من خلال بعض المواقع الإلكترونية، وقد تختلف مهام هذه ألأقسام من بلدية وأخرى في كل بلد، وأهمها: (قسم الشؤون الفنية، قسم صحة البيئة، قسم المراقبة والتفتيش وقسم الشؤون المالية...الخ)، وتقوم هذه الأقسام بعدة اختصاصات عبارة عن مجموعة أعمال متعلقة بتنظيم المنطقة التي تقع عليها مسؤولية  البلدية وإصلاحها، وتجميلها، والمحافظة على (الصحة والراحة والسلامة العامة)، ولها في سبيل ذلك اتخاذ التدابير اللازمة خاصة في النواحي التالية:
       -1
      تنظيم وتنسيق البلدة وفق مخطط تنظيمي مصدق أصلاً من الجهات المختصة.
      2- الترخيص بإقامة الإنشاءات والأبنية وجميع التمديدات العامة والخاصة ومراقبتها.
      3- المحافظة على مظهر ونظافة البلدة، وإنشاء الحدائق والساحات والمنتزهات وأماكن السباحة العامة (في الشواطئ) تنظيمها وإداراتها بطريق مباشر أو غير مباشر ومراقبتها.
      4- وقاية الصحة العامة وردم البرك والمستنقعات ودرء خطر السيول وإنشاء أسوار من الأشجار حول البلدة لحمايتها من الرمال.

      5- مراقبة المواد الغذائية والاستهلاكية والإشراف على تموين المواطنين بها ومراقبة أسعارها وأسعار الخدمات العامة، ومراقبة الموازين والمكاييل والمقاييس بالاشتراك مع الجهات المختصة ووضع الإشارة (الدمغة) عليها سنويا،وذلك بالتعاون مع جهة الاختصاص.

      6- إنشاء المسالخ وتنظيمها.

      7- إنشاء الأسواق وتحديد مراكز البيع.

      8- الترخيص بمزاولة الحرف والمهن وفتح المحلات العامة ومراقبتها صحياً وفنياً.

      9 - المحافظة على السلامة والراحة وبصورة خاصة اتخاذ الإجراءات اللازمة بالاشتراك مع الجهات المعنية لدرء وقوع الحرائق وإطفائها وهدم الأبنية الآيلة للسقوط أو الأجزاء المتداعية منها وإنشاء الملاجئ العامة.

      10ـ تحديد مواقف الباعة المتجولين والسيارات والعربات.
      11- تنظيم النقل الداخلي.
      12- نزع ملكية العقارات للمنفعة العامة، بالتعاون مع الجهات المعنية.

      13- تحديد واستيفاء رسوم وعوائد البلدية والغرامات.

      14-الإشراف على انتخابات وترشيح رؤساء الحرف.
      15-حماية الأبنية الأثرية بالتعاون مع الجهات المختصة.

      16- تشجيع النشاط الثقافي والرياضي والاجتماعي.
      17- التعاون مع الجهات المختصة لمنع التسول، وإنشاء الملاجئ للعجزة والأيتام بالتعاون مع الجهات المختصة.
      19-إنشاء والإشراف على المقابر.

      20-تلافي أضرار الحيوانات السائبة.
      21-منع وإزالة التعدي على الأملاك العامة.

      هذا مجمل عام عن أعمال البلدية، وكما ذكرت بأن مسؤولية البلدية قد تختلف بين بلدية وأخرى باختلاف البلدان، ولكن هذا هو الإطار العام لأعمال البلدية، حسبما لخصته من بعض المواقع الإلكترونية، فمن يود أن يستشف المزيد عن أعمال البلدية ربما من الأنسب الحصول عليها من موقع بلدية مسقط.

      بلدية مسقط هي أقدم تنظيم بلدي في السلطنة يعود تاريخها إلى أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، أي في عهد السلطان سعيد بن تيمور، وكما نعلم لم يكن هناك تنظيماً بلدياً في السابق كما هو الحال في وقتنا الراهن حتى عام 1970م، فكان نطاق عمل البلدية في السابق يقتصر على ولايتي مسقط و مطرح. كانت البلدية في السابق تقوم بمجموعة أعمال وهي عبارة عن مزيج من الواجبات المتناثرة حسبما كانت تكلفها الحكومة آنذاك، كتحصيل رسوم الجمارك وإصدار تراخيص السيارات، والأمن أي معظم الأعمال التي تقوم بها المؤسسات الحكومية في وقتنا الحاضر. "ويشار في إحدى المواقع الإلكترونية بأن: "ظلت البلدية تمارس تلك الصلاحيات والأعباء الإضافيـة ـ في حدود ضيقة ـ لأن متطلبات الحياة كانت محدودة في ذلك الوقت وكذلك الإمكانات، كما أن محدودية الرقعة الجغرافية قد ساعدت البلدية في سهولة ممارسة تلك الصلاحيات كما أضيف إلى صلاحيات البلدية في عام 1967م أعباء تسجيل السيارات وإصدار رخص السياقـة. أتذكر جيداً عندما كانت الشاحنات تنقل البضائع والركاب إلى عمان الداخل (مناطق خارج حدود مسقط) يتوجب عليها دفع رسوم قبل مغادرتها.  ربما تبلور العمل البلدي في سلطنة عمان في أواخر الستينات بعد إنشاء بلدية مسقط و مطرح.

      ونظراً لأهمية مدينة مسقط من الناحية التاريخية، ولكونها أيضاً العاصمة للسلطنة، أوليت بلدية محافظة مسقط اهتماماً خاصاً من لدن صاحب الجلالة.

      ففي مارس عام 1984م انتقلت مسؤولية الإشراف على بلدية مسقط إلى ديوان البلاط السلطاني حيث كانت نقلة حقيقية لبلدية مسقط توسعت فيها وتطورت وصارت مسقط العاصمة محافظة تضم بين ثناياها ست ولايات وخمس مديريات عامة جغرافيـة، كما أصبحت بلدية مسقط ولأول مرة مسئولة مسؤولية كاملة عن جميع مشاريعها الإنمائية بعد أن كانت موزعة بين ثلاث جهات (المواصلات -والكهرباء والمياه ـ والإسكان). أما باقي البلديات في المحافظات الأخرى فقد انتقلت مسؤولية الإشراف إلى وزارة البلديات الإقليمية عدا بلدية محافظة ظفار.

      وفي منتصف الثمانينات تم إخلاء بعض البيوت الموازية للشارع في  حي دارسيت، لتخصيص  أراضيها من أجل تشييد مبنى رئاسي للبلدية، وكان بيتنا ضمن هذه البيوت، ما زالت أشجاره قائمة  إلى الآن على مدخل مبنى البلدية الحالي.

      تقاسيم بيتنا السابق في دارسيت مازالت عالقة في ذهني حتى الآن كان البيت عبارة عن مسكن ومتجر، ومستودع لشركة والدي، التي أسسها في هذا البيت، بعد استقالته من الخدمة العسكرية والأمنية في أواخر السبعينات. ومن ثم نقل أعماله إلى مسقط رأسه بولاية إبراء، ليستقر هناك بأعماله التجارية والمقاولة. والدي ـالله  يرحمه ـ كان أحد الأعضاء الثمانية الذين أسسوا سوق إبراء الأهلي (سوق منطقة السفالة)، وله بصمات خدمية لتجار الولاية خلال فترة ترأسه لفرع غرفة التجارة والصناعة هناك. وهو أيضاً أحد مؤسسي نادي إبراء الرياضي، وترأس إدارته لعدة فترات قبل أن يدمج النادي مع نادي ولاية المضيرب ويغير مسماه إلى  نادي الاتفاق. مع هذا الوالد ـ الله  يرحمه ـ لم تشغله أعماله عن أولاده، بل ظل متنقلاً  بين مسقط وإبراء متكبداً العناء من أجل رؤية المقيمين في مسقط إلى أن توفاه الله في عام 2008م، طاوياً صفحات سنين طويلة من الكفاح الحافلة بالمنجزات، متنقلاً بين مختلف المهن والأعمال الرسمية والمدنية الأهلية، من أجل خدمة أبناء وطنه. أسأل الله له الرحمة والمغفرة وأن يسكنه فسيح جناته يا رب العالمين.

      1. عبد الله السناوي - شارك