1. الصورة عن صلاة العيد خلال حقبة الستينات مهداة من ابن عمتي الأخ حمد بن سالم بن منصور السناوي، عن طريق وسيلة التواصل الاجتماعي (الواتس ـ أب) ويبدو من خلال الصورة مَن يؤم  المصلين هو المعلم سيف  الشكيري معلم القرآن الكريم بسفالة - إبراء ويظهرفي الصورة من ناحية يسار الإمام والدي أحمد بن صالح ونرى الصلاة تؤدى في الوادي الغربي دون أهل العلاية أي قبل التجمع الذي طرأ في وقتنا الحالي والذي يضم  أهل العلاية وأهل السفالة، من ولاية إبراء.

      جدار المصافحة:

      لا شك أن المناسبات الدينية كالأعيادهي وسيلة من وسائل التواصل والتقارب والتقاء الناس ببعضها، وعيدا الفطر والأضحى المباركان بالنسبة للعمانيين يعتبران مهرجاناً أسرياً للتلاقي، ليس كونهما من الناحية الدينية للصلاة وزيارة الرحم فحسب، بل هما المتنفس الذي يرتاح فيه رب الأسرة أو الوالدين مع أبنائهما، ومراجعة أحوالهما.

      ربما القرى في الولايات أكثر نشاطاً في الأعياد، وملفتة للنظر، لما يراه المرء من تحرك وتنقل الأهالي بين المحال التجارية والأسواق الشعبية والمكشوفة؛ لشراء مستلزمات الضيافة من مواد غذائية وكماليات...إضافة إلى مستلزمات "الشواء" من بهارات وغيرهاوالتي تملأ المكان بروائحها المشهية للطعام.لا تكاد تخلو سكة أو زقاق من روائحها، متناغمة مع فرقعات (الفَتَاك) طوال فترة العيد. ولكن، للأسف زهوة العيد (الفتاك أو بما يعرف بالمفرقعات الصينية) منع في الآونة الأخيرة لكثرة الحوادث التي يتعرض لها الصغار من جراء سوء استخدامها.

      وقبل مجيء الفتاك أذكر أن الشباب منا كانوا يستخدمون (المَدِيفِعِي ـ تصغير مدفع) وهو (جز البطن) من بندقية ( التفق العماني) المعروف "بأبي فتيلة". كنا نقص ماسورته وخشبة مسند خد الوجه، ليصبح على شكل مدفع صغيرنحشيه بالبارود ومن ثم نضعه على الأرض، نوسمه ليفرقع.

      أما الكبار منا ممن لديهم  بنادق الصمع (الألمانية)، يتجمعون في السبلة بعد صلاة الظهر قبل العيد بيومين يصنعون البارود من الملح (الشورة) والفحم والكبريت ثم يعجنون هذه الخلطة الكيماوية ويقلونها على نار هادئة، وبعد أن تجفف يقومون بدق مكونات الخلطة لعدم توفر آلات الطحن في السابق حتى تصبح مسحوقاً يستخدم  لحشو البنادق.

      مكونات خلطة البارود كانت في السابق تباع بشكل عادي عند الباعة، كالكبريت وملح الشورة، أما الفحم كنا نصنعه بحرق سيقان نبات (الشخر) الجاف مجوف السقان.

      ومن مظاهر العيد في السابق هي الهبطة، والهبطة تعني هبوط الناس إلى السوق قبل العيد بأسبوع بشكل استثنائي لشراء احتياجاتهم من أكل وملبس وأدوات وأواني وفضيات.

      وفي الهبطة تقام عروض لمختلف السلع، ويتم في السوق مناداة الأضاحي من الماشية، كالأغنام والأبقار، ولكن تسبق الهبطة استعدادات داخل البيوت عند ربات البيوت كتحضير البهارات ودق الحناء الذي يستخدم ذروره (مسحوقه) بعد خلطه بالسوائل  لتزيين كفوف الأيدي وأرجل النساء بالنقوش، وأيضاً للصغار من الصبية  دون سن الصلاة.

      وكانت هبطة إبراء في السابق في السوق القديم لها نكهة خاصة، وكنا نحن الصغار دون السابعة نترقبها بشوق، لا تقل فرحتنا بها عن فرحة العيد، نلبس الملابس الجديدة ونعطى مبلغاً من المال لشراء ما نريده، ومنا من يشتري تغليفة حلوى أو بسكويت أبو فَراخ (بتشديد الراء) يعني الفشار، و لوز وسبال (الفول السوداني) والنارجيل المجفف (جوز الهند)، أو المشاكيك - لحم يعرف بالزاهب.

      يزدحم السوق من كل فج عميق، تكاد لا ترى زميلك من اكتظاظ الناس، لا تسمع إلا أصوات المناداة على الأغنام، الكل مبتهج، لا ترى من يلبس السروال والقميص،أي لا وجود للأجنبي، الكل يتحدث لغة واحدة وبلباس واحد، ومن لديه بيسة أو بيستين منا يهرع لشراء المكسرات، ونعود إلى البيت محملين بما كنا نتمناه، ولا يوجد أي شكل من أشكال الألعاب التي نراها الآن إلا نادراً، ربما المسدسات المائية التي أتت في نهاية الستينات.

      كان السوق تأتيه أيضاً النساء من سكان البادية ومعهن الأغنام يعرضنها للبيع، وأيضاً ما صنعن من غزل، فيمتلئ السوق برائحة الأغنام والبهائم وروائح البهارات كلها تختلط فتعطيك رائحة خاصة لذكرى لا تنسى عن ذلك اليوم.

      وسوق السفالة القديم الذي كان يعرف بسوق الحرث في السابق، يقع في حلة القناطر، وكنا نصل إليه مشياً على الأقدام من حارة سيح العافية، كما تأتي السوق قبائل أخرى من مختلف قرى إبراء ومن الحلل المجاورة لتبتاع ما تريد، وهناك سوق في العلاية مماثل له،يتهيأ لي بأنه أوسع عن سوق إبراء في المساحة (مكشوف بدون  أسوار وغير منغلق)، وكنت أذهب إلى هذه  السوق عندما يقام سباق للخيل، وينشط سوق إبراء في أيام الهبطات التي تسبق العيد بأسبوع، وتأتيه قبائل حتى من خارج إبراء، لتبيع سلعها ومنتجاتها.

      ودكاكين السوق تتشكل في ثلاثة أسطر لا أذكر عددها ولكن لا يقل عن اثني عشر دكاناً في كل سطر ـ والله أعلم ـ تقع في ثلاثة اتجاهات، سطر في الغرب وسطر في الشمال وسطر في الشرق. أما في الجنوب فيوجد جدار بيت اللمبية من الجص يجلس تحته القصابون بائعو اللحوم والأسماك، وفي ساحة السوق في الوسط توجد شجرة الغاف يستظل تحتها الناس، وللسوق ثلاثة مداخل، مدخلين من الشمال (شمال غربي، وشمال شرقي) ومدخل من الشرق ومساحة الدكان الواحد صغيرة جداً تستخدم فقط لتخزين البضائع، وعند البيع يبرز البائع (يجلس)، أمام باب دكانه تحت سقف من سعف النخيل، موزعاً بضاعته في سلال من سعف النخيل (قفر).

      السوق لا يفتح إلا وقت المساء بعد صلاة الظهر، وعندما كنا نذهب نجد عند مدخل السوق ـ من ناحية الشمال الشرقي دائماً ـ رجلاً وقوراً كفيف البصر كبيرا في السن عليه عمامة بيضاء (عمامة المطاوعة) جالساً بخنجره وعصاه في مبرز أحد الدكاكين، وعلمت فيما بعد بأنه عسكري مفوض، عنده صلاحية الضبط القضائي، ويحكم بين الناس، فيسجن  كل من يراه مخالفاً أو معتدياً على غيره. وفي المدخل الشرقي يجلس المحسن (الحلاق) يحلق للناس، ومعه أيضاً آلة لسن السكاكين والمجاز (تلفظ بفتح وتشديد الجيم ومفردها مجز( وهو منشار على شكل هلال لقطع (زور سعف النخيل).

      و كما أسلفت لا توجد دكاكين من الجهة الجنوبية للسوق عدا جدار ظهر بيت اللمبية، لعل تسمية المبنى بهذا الاسم لوجود شجرة اللمبية داخله، وشجرة اللمبية من الأشجار الكبيرة المعمرة، يتهيأ لي فاكهتها تشبه فاكهة البرقوق الأخضر plum (نوع من الخوخ) لا أتذكرها.على كل حال كنت أكره أن أمر أمام باب مدخل هذا البيت، عندما علمت بأن الناس يسجنون هناك بطمرهم تحت الأرض، أي وضعهم في حفرة داخل صفة (غرفة) مظلمة، تشبه حفرة الشواء عند ارتكابهم لجرم.

      كنت اشمئز واشعر بالقشعريرة عندما أتخيل كيف يستطيع الإنسان أن يعيش في تلك الحفرة الضيقة المظلمة؟ وكيف له أن يتحمل حرارة الصيف وهو مقيد الرجلين بقيد من حديد قد يصل وزنه إلى  أثنين كيلوجرام. طبعاً لا وجود لمنظمة حقوق الإنسان في ذلك الزمان، في اعتقادي بأن كرامة الإنسان مهانة، مخالفين للدين -  الله سبحانه تعالى يقول في كتابه العزيز في سورة الإسراء الآية 70:
      "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا"

      كرَّم الله الإنسان لا أن يهان. وكنت أرى من الأفضل أن يقتل السجين بدلاً أن ينال ذلك العذاب، تخيل لو كان لديه ضغط الدم أو داء السكري، الداء الذي كان غير معروف في ذلك الوقت وتوفي؛ سيقال بأنه قضاء وقدر ! "إنا لله وإنا إليه راجعون". من الذي سيطالب  بحقه!!؟.

      كنت أتحاشى مرافقة زملائي الذين أدرس معهم بمسجد الجامع عندما أعلم بأنهم سيذهبون إلى هذا المبنى، لاستراق النظر من شقوق الباب لرؤية السجناء. حيث الجامع لا يبعد عن هذا المبنى إلا بضع خطوات ويقع المبنى على الدروازة في نفس السكة التي تؤدي إلى الجامع.

      بالرغم من اشمئزازي... إلا أني لا أستطيع أن أقاوم فضولي من معرفة ما بداخل هذا البيت، ودائماً هو مغلق من الخارج، وعندما نعلم بأن هناك سجين، نحاول أن نتجسس من شقوق الباب لمعرفة ما بالداخل.

      ويوجد شرقي هذا البيت مسجد صغير مبنى من الجص بقربه بئر يمر من تحته فلج ماراً من داخل بيت اللمبية، وشمال المسجد مقابل مدخل السوق يوجد مربط للحمير، وهناك ساحة عليها ركز لربط الدواب، الفكرة شبيه بفكرة مواقف السيارات أمام الأسواق في وقتنا الحاضر.

      في السكة التي شمال السوق بها صفة من الدكاكين، معظمها للمهنيين، وأيضا لبيع الحلوى، وتؤدي هذه السكة إلى داخل حلة القناطر إلى الوادي حيث تقع سبلة الحرث على يمين المهبط، وقد قيل لي بأنه عندما يأتي الإمام (محمد بن عبد الله الخليلي (1919 ـ 1954م) يستضاف في هذه السبلة أو تحتها في الوادي ـ والله - أعلم.

      سوق السفالةك: بالرغم من صغر مساحته لكنه يستقطب كثيراً من الزوار، ربما لكون إبراء تتوسط منطقة شمال الشرقية، ولم تكن السيارات تستخدم طريق إبراء كمعبر إلى صور كما هو الحال قبل فتح طريق قريات - الصور، لأن أهل صور لهم معبرهم البحري مطرح ـ صور.

      منذ عام 1967م بدأت الحياة تتحسن، بدأت أرى عامة الناس يلبسون النعل المستوردة "الزنوبة" المستوردة من الهند، بدلاً من تلك التي كانت تصنع محلياً من الجلد وأشرطة رباطها من خيوط الصوف أو أجربه (الزربول) المصنوعة من صوف الأغنام.

      جرت العادة يوم العيد أن يجتمع أفراد قبيلة السناويين من الذكور في بيت أحد علماء القبيلة، وكان بيت جد خال والدي، (الأخ غير الشقيق لوالدته)، وقد عرف ذلك البيت فيما بعد ببيت "القبولي" يجتمع أفراد القبيلة في الصباح عند طلوع الشمس من الصغار والكبار والفقراء والأغنياء لتناول وجبة العيد "القبولي" ثم ينتقلون إلى السبلة للمصافحة والسلام على بعضهم بتهنئة العيد، وبعد ذلك يتجمعون تحت السدرة، شجرة تعرف (بسدرة عمر) لم تعد هذه السدرة موجودة الآن، لقد اقتلعت.

      ومن تحت ظل هذه السدرة ينطلق جماعة السناويين لصلاة العيد، وفي منتصف الطريق تنضم إليهم قبائل أخرى:مثل قبيلة المطاوقة، والعاسرة من حلة السباخ وقبيلة الغيوث من المعترض والمشاهبة والبراونة من حلة البارزة والمعامرة من حلة المنزفة،، وغيرها إلى أن يصلوا إلى آخر التجمع من حلة القناطر ليلتقوا بقبائل آل عرفة والمراهبة... وغيرهم، وبذلك يكون التجمع الأخير قد اكتمل فيه معظم قبائل الحرث في إبراء، لتلتقي في المصلى بالوادي الغربي بقبائل أخرى.

       ومن العادات المتبعة ألا تقام صلاة العيد دون اكتمال كل أو معظم قبائل الحرث في ذلك الوقت، قبل الأندماج. وتعقب صلاة العيد في الوادي مسابقة الرماية بالبنادق على أهداف من الحصى تكون قد صفت مسبقاً، ومن لا هواية له في الرماية ينضم إلى أفراد أسرته أو أولاده لشراء الهدايا وألعاب العيد من الباعة البارزين تحت ظل جدران الضواحي المطلة على الوادي، ومن ثم يغادر الجميع إلى منازلهم لأداء تهاني العيد لذويهم أو لمن تبقى من الرحم والأقارب وكبار السن من النساء.

      وتبدأ بعد صلاة الظهر  فترة ذبح الأضاحي وتستمر بهجة العيد حتى اليوم الثالث وهو يوم نبش الشواء خاتمة العيد. وفي السابق كان الناس لا يذبحون إلا يوم عيد الأضحى بسبب الظروف المادية، وأذكر كان يضرب طبل (يقرع) في السوق لأعلام الناس بالمنع من قبل شيخ القبيلة.

      أما فيما يخص سدرة عمر، لست أدري كيف أتت هذه التسمية هل هي نسبة للشخص الذي كان كثير التواجد تحتها عن غيره، أو أن الاسم لغير ذلك،  ولكن بما علمته من أحد سكان الحارة، بأنه كان الشيب من أمثال جدي الأكبر(جد أبي) وبعض أمثاله من الشيب في ذلك العصر بالإضافة إلى الشائب عمر نفسه وآخرون من سكان الحارة؛ كانوا دائمي التواجد تحت هذه السدرة قبل وبعد كل صلاة.

      سدرة عمر كانت تعتبر نقطة تجمع لأهالي الحارة للانطلاق منها في المناسبات،كمناسبة العيد أو لأداء واجب العزاء في القرى المجاورة على سبيل المثال: يتم في الأعياد بعد أن يكتمل التجمع ينطلق الجميع بالأهازيج والطرب، ويتقدم الشيب من كبار السن الصفوف إلى أن يصلوا مصلى علوي الفلج الذي يشق الوادي، بخلاف بعض المناطق التي تكون مسيرتهم للصلاة بالتهليل والتكبير، وتسمبيح.

      لكن الآن تغير الوضع،معظم الناس يذهبون إلى المصلى بالسيارات، والمظاهر السابقة التي كنا نراها اختفت، كما أن نسبة تواجد الوافدين من الأسيويين في المصلى قد فاق عدد المواطنين بالأضعاف، ولا يوجد انتظار للقبائل كالسابق، تقام الصلاة فور وصول المحافظ أو الوالي.حتى نظام المصافحة تغير، إذ لا يكاد الإمام ينتهي من خطبة العيد حتى يهرع البعض مستبقاً غيره للاصطفاف على جدار القبلة، بحذاء الوالي بقدر الإمكان، ليوهم الناس أنه من الوجهاء لتصافحه الناس من مصافحة الوالي. بالرغم أن الجدار طويل بعشرات الأمتار  وله اضلع، وكل من صَافَحَ أصطَفَ لِيُصَافَح، إلى أن تنتهي الطوابير، و لما العجلة إذن؟

      وقد حصل لي موقف مؤذي ذات مرة لا يمكنني أن أنساه ابداً، مما يجعلني ومع كل عيد أغادر المصلى فور انتهاء تأدية الصلاة، ولا أصطف معهم على ذلك الجدار.

      إذ في مرة من المرات صادف أن حالفني الحظ أن أصطف بمحاذاة سعادة الوالي، ربما لا يفصلني عنه في الصف عدا سبعة أو عشرة أشخاص وجاء واحد من أخواننا شاب مغرور بمنصبه وأخذ يرصني في ذلك الصف حتى كادت روحي أن تخرج، كان غير مبالٍ، كل ما كان يهمه أن يبقى في مكانه وكأنه يقول لي بأن أولوية الاصطفاف في هذا المكان من نصيبه...لأصحاب المناصب الحكومية...يعني مثله، بالرغم أني أكبره  سناً بكثير، مخالفاً تقاليدنا العمانية التي نقدم الأكبر سنا، ومع ذلك فلست أقل منه بل كنت موظفاً حكومياً قبل تقاعدي، وذو منصب...وهو يعلم أيضاًبأني  معتل صحياً، وعندما رأيت هكذا، كاد نَفَسِي أن ينقطع من ذلك الرص، وطقطقة عباراته التي يجامل بها المصافحين تطقطق في أذني كضربات المطرقة؛ انتظرت الفرصة السانحة وغادرت المكان.

      1. عبد الله السناوي - شارك