-
-
تهادوا تحابوا-د:
يوصينا نبينا صلى الله عليه وسلم بأن يهادي بعضنا بعضاً فقال: "تهادوا تحابوا" حديث أخرجه البيهقي في السنن الكبرى(6/169). هل في عصرنا الحاضر عصر المادة والمصلحة يترجم هذا الحديث إلى رشوة؟
بالأمس كتبت مقالة كيف للموظف العام أن يصبح غنياً؟ وراتبه بالكاد يغطي مصروفاته الحياتية، حتى لو كان خريجاً بدرجة الدكتوراة... وإذا وفر من راتبه لن يزيد عن عشرة في المائة لأن عليه التزامات أخرى نحو غيره حتى يحافظ على مستواه العلمي.
لكن الغريب عندما نرى موظفاَ درجته المالية أقل من رئيس قسمه، تراه شخصاً ميسوراً أكثرمن رئيسه، وحتى رئيسه لن يكن له غنى فاحش إن لم يكن يستغل وظيفته (بالمسمى، أو بالجهد، أوبالوقت على حساب العمل)؛ إلا إذا كان في وظيفة خاصة (وظيفة المهام الخاصة التي يحصل على مكرمات عليها من لدن صاحب الجلالة)، كمن يعملون في (الأمن أو ديوان البلاط السلطاني أوفي البروتوكولات، والمراسم). غير ذلك لا يمكن كما قلت، إلا إذا استغل وظيفته سواءً أكان بالوقت أو بالجهد، أو باستخدام معدات العمل وخدمات مرؤوسيه له؛ لإنجاز معاملاته التجارية. وفي الثمانينات والتسعينات رأينا أن هناك من كان يفوق موظفي المهام الخاصة غنىً، وهم موظفين في وظائف تابعة لنظام الخدمة المدنية... وهؤلاء هم الآن من يلعبون في السوق، يمرطون اللقمة من فم البسيط الكادح.
أذكر في الثمانينات والتسعينات وبداية الألفين كيف كان التلاعب بسيارة العمل التي كانت تستغل من قبل المديرين ومديري العموم في أعمالهم الخاصة، وكيف كانوا يتبايعون الأراضي في النوادي التي كانت تعرف بـ (النوادي الترفيهية للموظفين). وكان "الفراش" في العمل، أهم من المدير، يحتاج له كل موظف لخدماته، حتى كنا إذا أردنا أن نعرف عن سر اجتماع مجلس الإدارة وعن الترقيات نتقرب لهذا الفراش، لا شي عنده مستحيل طالما تربطك معه مصلحة.
ومن عشرات القصص التي أتذكرها في هذا المقام، كان عندي في الدائرة موظفاً لا يعرف من أبجدية الهندسة شيئاً، الحق معنا فقط لكون خاله مسئول كبير في إحدى الجهات الرسمية آنذاك. وكلما حان موعد كتابة التقارير السنوية عن الموظفين، يتقرب إلي ويستلطفني ويعرض علي خدماته. وكنت (لا أعطيه وجه ) أي لا التفت على عروضه. وبالصدفة ذات يوم، دخل علي في المكتب فوجدني مهموماً، وعلى طاولة مكتبي نسخ من مستندات ملكية بيتي في دارسيت و(الكروكي).
فعرض علي خدماته فقال: "أستاذ عبد الله إذا كنت ستبيع الأرض فأنا عندي لك زبون" رفعت رأسي ونظرت إليه، فقلت له:"ليس لدي أرض للبيع لقد عدت للتَو من وزارة الإسكان (الأراضي) لمقابلة الوزير وللمرة الثالثة لم أحظ بمقابلته" فنظر إلى الكروكي وقال:"بخصوص امتداد؟" فأجبته: (نعم)، فقال: "الموضوع بسيط". فقلت له:"كما ترى مدون في الكروكي، هذا الامتداد لا يمكن دون موافقة الوزير شخصياً". فقال:"لا عليك، غداً سأمر عليك وسلمني الملكية الأصلية والكروكي، ومائة ريال لسهرة الشباب". فرأيت أن أتنازل عن كبريائي قليلاً، بدلاً أن أدفع 30 ريالاً (شهرياً/سنوياً)، للبلدية عن مظلة موقف سيارتي خلف البيت، وبعد يومين أتى ليزورني في المكتب كعادته بحجة السلام علي، وقال:"أستاذ عبد الله، سنحتاج إلى مبلغ إضافي مائة ريال لكبير الشباب ورسوم الامتداد".فقلت له:"تفضل خذ... لكن خلص لي الموضوع"، وفعلاًً بعد 3 أيام سلمني الامتداد والتعديلات في مساحة الأرض أكثر مما توقعت.
في نهاية السنة أخذ يتردد إلى مكتبي يطالبني بالترقية، فقلت له: "كيف لي أن أزكيك لترقية (فني) وأنت لم تجتز دورة مساعد فني بعد؟". فقال: "لكني خدمتك". فقلت له:"ما قدمته لي ليس مجاناً وإن أردت سأكتب ما قدمته لي وأضعه على لوحة الإعلانات ليراه كل واحد، ولكني لن أتحمل مسؤولية ترقيتك على حساب الآخرين". وكان قد سبق أن أهداني في بداية تعيينه نموذجاً لسفينة (الخنجة) قيمتها 300 ريال فجاء في اليوم التالي ليستردها، لقد رأى لا فائدة من هديته عندي، وأحسست بالفرح كأنه جبل أزيح عني عندما أنتقل إلى دائرة أخرى.
وقصة أخرى كنت مديراً للتسويق، وكان عندنا في الدائرة فراش، وذات مرة وجدني في مكتبي محتاراً كيف سأخلص معاملة (شغالتي) لدى الجهة المختصة؟ وأرشدني هذا الفراش أن أذهب لمقابلة شخص صديق له.
وبدون أن يذهب معي،قال لي:" قل له أنا من طرف فلان" وعندما ذهبت وذكرت اسم الفراش للشخص في تلك الجهة قابلني باستقبال جيد وخلص لي المعاملة في خلال دقائق بينما الآخرون تستغرق معاملتهم في تلك الجهة أسبوعاً. وبعد ما سلمني المعاملة سألني إن كنت اشتغل مع صديقه؟ فقلت له: (نعم) فقال: "سلم على الشيخ وقل له:"شكراً لقد تم تركيب التليفونات في المحلات".
الفساد جزء من تراثنا بمسميات مختلفة... (الواسطة)، نتوسط لكل شيء في حياتنا، ومتعايشون معها، لن نكون كوزراء في فدلاندا، أو هولندا والدول الاسكندنافية.وزراءتلك الدوليركبون النقل العام عند الذهاب إلى أعمالهم، لقد سمعت عن قصة رئيس وزراء هولندا السابق الذي كان يذهب إلى عمله على دراجة هوائية، وأيضاً عن قصة إحدى الوزيرات عندما عوتبت من قبل الناس لأنها كانت تركب (تاكسي) عند الذهاب لمهام العمل، بدلاً من أن تستقل النقل العام،عوتبت؛إذ اعتبر تصرفها ذاك شكل من أشكال التبذير في المال العام، حتى قدمت استقالتها.
- عبد الله السناوي - شارك
-