1. (كتيب المحاضرة)

      هجرات الحرث إلى أواسط القارة الأفريقية (الجزء الثاني):

      نشاط تجارة العرب عبر القارة الأفريقية من شرقها إلى وسطها خلال القرن التاسع عشر:

      خلال حقبة النصف الأول من القرن التاسع عشر انجذب انتباه التجار العرب نحو التحرك إلى داخل القارة الأفريقية وهم الذين كانوا فيما مضى مهتمين فقط بالاستقرار على ساحل إفريقيا الشرقي.

      وفي عام 1830م حدث أول تحرك معلوم للتجار العرب وذلك على شاطئ بحيرة تنجانيقا، ومما شجع هؤلاء التجار على التحرك نحو وسط القارة هو تحسن ظروف التجارة في ذلك الوقت حيث أنه كانت تجري مقايضة 35 رطلاً من الخرز يساوي 140 رطلاً من  العاج  وبذلك كان أرخص عشر مرات عما كان الأمر عليه في زنجبار.

      وبحلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر ازداد الطلب على العاج زيادة كبيرة في مناطق ساحل إفريقيا الشرقي، وطبقاً للمصادر التاريخية فإن كمية العاج المتداولة في زنجبار سنويا بلغت350,000 رطل في عام 1841م، وبلغت سبعمائة ألف رطل في عام 1849م حتى وصلت إلى أكثر من ثمانمائة ألف رطل في أواخر أيام حكم السلطان سعيد بن سلطان  (1806-1856م).

      وتشير تلك الإحصاءات إلى ما حدث من مضاعفة كميات العاج المتداولة في حقبة نصف القرن الماضي وهو الأمر الذي أدى في الواقع إلى انطلاق الهجرات العربية إلى داخل  القارة الأفريقية.

      ويمكن القول بأن المحاولات الأولى للوصول إلى قلب القارة بدأت فعلاً في عام 1824م. ولم تتخذ الهجرة شكلاً منضبطاً ومنظماً إلا في أواسط القرن التاسع عشر. ومن أبرز الطرق التجارية كان ذلك الطريق الممتد من باجامويو [ربما يقصد Bagamoyo المنطقة المقابلة لجزيرة زنجبار] على ساحل تنجانيقا (تنزانيا) وغربا ً حتى تابورا  Tabora وأوجيجي Ujiji  الواقعة على بحيرة تنجانيقا. وبلغ طول ذلك الطريق نيفاً وخمسمائة وألف كيلومتر كما وإن  الرحلة  كانت تستغرق شهرين للسفر من باجومويو Bagamoyo إلى أوجيجي Ujiji.

      وطبقاً لأقوال الرحالة (ستانلي)، فإن بلدة تابورا Tabora الواقعة على بعد ألف كيلومتر إلى الغرب من ساحل أفريقيا الشرقي، كانت تمثل أهم مركز تجاري للنشاط التجاري لتجار مسقط وزنجبار في وسط أفريقيا.

      النشاط التجاري ذو الطابع الدولي

      كان هذا الطريق التجاري القديم ينتهي عند بلدة أوجيجي Ujiji الواقعة على شاطئ بحيرة تنجانيقا. وكانت جميع الطرق التجارية في القرن التاسع عشر تخدم في الواقع سلعتين رئيسيتين، هما العاج والقرنفل. وكانت جزيرة زنجبار المركز الرئيسي لهذا النشاط التجاري الدولي الواسع النطاق.

      وقد استفادت زنجبار فائدة كبيرة من وجود الأراضي الأفريقية الشاسعة والتي تخدمها شبكة من الطرق تربط ما بين العديد من الموانيء على الساحل حيث حركة السفن التجارية النشطة والتي تنقل السلع والبضائع إلى زنجبار والتي لعبت دور المستودع الضخم لتلك السلع (العاج والقرنفل والتوابل). وبناء على ذلك فإن تلك الجزيرة (زنجبار) سيطرت على منطقة واسعة تشمل بحيرات أفريقيا الوسطى غرباً إلى ساحل إفريقيا الشرقي شرقاً، ثم أوغندا شمالاً إلى موزمبيق Mozambique جنوباً.

      وكما سبق ذكره، فإن النشاط التجاري بلغ أوجه خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكاد هذا النشاط أن يتوقف تماماً خلال العقد الأخير من ذلك القرن حين أدت السيطرة البريطانية إلى إلغاء تجارة العبيد.

      وفي تلك الحقبة ظهر الاستعمار الأوروبي في إفريقيا وانتشر في تلك المناطق مما أدي إلى ظهور قوانين استعمارية وحدود لم تكن موجودة من قبل علاوة على فرض ضرائب ورسوم جمركية، وقد انتهت جميع الأنشطة التجارية تماماً بإعلان الحماية البريطانية على زنجبار في عام 1890م، وتبعاً لذلك اختفى المثل الشائع حينذاك: إذا ما دقت الطبول في زنجبار رقص الناس في البحيرات.

      السكك الحديدية:

      ولقد حدثت تعديلات عميقة في الأشكال السياسية السائدة حينذاك في القارة الأفريقية وذلك نتيجة لما أدى إليه الاستعمار الأوروبي من وضع قيود على حرية التجارة وتنقلات الأفراد ولم تكن تلك القيود إلا بمثابة الخطوة الأولى لأضعاف النمط القديم للنشاط التجاري. وكانت الخطوة التالية لذلك هو استقلال دول شرق أفريقيا في حقبة الستينات من هذا القرن. [يقصد القرن التاسع عشر].

      هذا، ولقد أدى إنشاء السكك الحديدة في شرق أفريقيا في بداية القرن العشرين، إلى ظهور طرق تجارية جديدة بدلاً من الطرق التقليدية القديمة ويتضح ذلك كما يلي:

      تم الانتهاء من الخط الحديدي الذي يربط ما بين كل من ممباسا Mombasa ونيروبي Nairobi وكيسمو Kisumu – Kenya الواقعة على بحيرة فكتوريا في عام 1902م وبذلك استحوذ هذا الخط على النشاط التجاري الذي كانت تخدمه الطرق التجارية القديمة والتي كانت تربط ما بين كل من تاربورا Tabora ولوجا.

      بدأ في عام 1905م إنشاء الخط الحديدي في وسط أفريقيا والذي اتبع في مساره طريق القوافل القديم ما بين كل من باجامويو Bagamoyo وأوجيجيUjiji  ولم يصل هذا الخط إلى تابورا Tabora إلا في عام 1912م، كما لم يصل إلى بحيرة تنجانيقا إلا عام 1914م.

      (ج) النشاط التجاري المحلي:

      نتيجة لأتساع شبكة التجارة الدولية في شرق القارة الأفريقية السابق ذكره، فقد تبع ذلك دون شك اتساع حركة التجارة المحلية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. 

      وعليه فإننا نجد عدداً كبيراً من التجار استقروا في القارة ما بين السنوات 1850- 1900م في مناطق أوجيجي Ujiji والبرت فيل على بحيرة تنجانيقا حيث أصبحت الأماكن المذكورة مراكزاً  للنشاط التجاري المحلي.

      وعلاوة على ذلك فقد شوهدت في بداية عام 1901م السفن الشراعية العربية وأيضاً سفينة بخارية وهي تقوم بنقل البضائع عبر بحيرة تنجانيقا وفي عام 1896م كانت القوات الألمانية متمركزة في أوجيجي والتي كانت سوقاً للتجار العرب وعلى الرغم من إغلاق مملكتي رواندا وبوروندي في وجه الأجانب، إلا أن اوجيجي كانت تتمتع بنشاط تجاري معهما إلى حد ما.

      ونظراً لأن سياسة الاستعمار الألماني كانت سياسة مبنية على مبدأ الحماية، فعليه كان هناك حظراً على تعامل كل من التجار العرب والهنود مع تلك المستعمرات الألمانية. هذا، وقد كان يطلق على هؤلاء التجار اسم (التجار الأسيويون). والاستثناء الوحيد لتلك القاعدة هو ما كان متبعاً في بلدة بوجمبورا Bujumbura وعليه، فإنه وفي البلدان السابق ذكرها ـ ونعني المستعمرات الألمانية ـ كان النشاط التجاري المحلي مقصوراً على التجار المحليين،  واشتمل معظم النشاط التجاري على عمليات مقايضة الماشية من كل من رواندا وبوروندي مقابل الملح من أوفنتا. كما تناولت عمليات المقايضة سلعاً مثل الخرز والأدوات الحديدية  والنحاس والأقمشة المستوردة.

      وبعد أن قامت السلطات الاستعمارية الألمانية بفرض القيود على حركة التجارة في كل من بحيرتي تنجانيقا وفكتوريا، عمدت تلك السلطات على محاولة الاستحواذ على النشاط التجاري العالمي والذي ابتدأه التجار العرب قبل ذلك الزمان بما يقرب من خمسين عام مضت. ولقد فشل الألمان في محاولاتهم تلك عندما تعرضت تجارة العاج للانهيار في أواخر القرن الماضي كما اتضح أن الألمان كانوا قد أكثروا من المبالغة في توقعاتهم عن وفرة الإنتاج الزراعي في مستعمرتي رواندا وبوروندي.

      إلا أنه يجب الاعتراف بأن الألمان هم الذين ادخلوا زراعة القهوة في تلك المستعمرتين وهي القهوة التي أطلق عليها اسم القهوة العربية والتي سرعان ما لعبت دوراً كبيراً في اقتصاديات رواندا وبوروندي. وحتى يومنا هذا، فإننا نرى أن (القهوة العربية) هي العماد الرئيسي لصادرتهما كما وأن معظم دخل السكان ينبع أساساً من تلك السلعة. لقد مارس العمانيون نشاطاً كبيراً في تجارة القهوة حيث أن الأغنياء منهم كانوا يمتلكون شاحنات  البضائع لنقل منتوج القهوة إلى العاصمة. أما الآن وفي وقتنا الحاضر فقد توقف نشاط التجار العرب سالف الذكر حيث أن الوكالات الحكومية والتعاونيات الزراعية قد حلت محل أولئك التجار إلا أنه على الرغم من ذلك كله، فإن نقل البضائع والأفراد مازال من أوجه الأنشطة الرئيسية للعمانيين في وسط أفريقيا وحتى يومنا هذا.

      1. عبد الله السناوي - شارك