1. الشاطر من يضحك في الآخر - د:

      سبحان الله بعد زيارتي الأخيرة لمقابلة طبيب العيون، وطمأنني بأن هناك تحسن في صحة عيوني؛ وإنما علي فقط ملازمة استعمال الدواء (قطور العين)، ارتفعت معنوياتي، وصرت أمارس هواية المطالعة والكتابة في المدونات الإلكترونية كالعادة، ومنها (الواتس ـآب).

      هناك مواضيع في بعض (الجروبات) بها جاذبية مغناطيسية، لا يمكن للمرء أن يدعها أن تفلت منه دون المشاركة بالكتابة في مواضيعها، على سبيل المثال؛ مواضيع الساعة التي تكتب عن الغش التجاري، والتي بعضها تستهدف عائلة معينة من التجارالهنود، أو ممن حصل منهم على الجنسية العمانية.ولست أدري لماذا يتم تسليط الضوء على هذه العائلة بالذات، دون غيرها من التجار الهنود، خاصة بعد أن عثرت هيئة المستهلك مؤخراً على كمية كبيرة من الأرز الفاسد بالمخازن التجارية لشركة هذه العائلة في إحدى ولايات محافظات  الباطنة.

      مع احترامي لبعض الأخوة الذين طرحوا هذه القضية للتداول في وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنه ليس هناك ما يثبت بأن هذه البضاعة أودعت في المخازن من أجل بيعها للناس، قد تكون مركونة إلى حين إيجاد طريقة للتخلص منها دون إضرار بالبيئة، إلا إذا كانت قد ضبطت تباع أو تكيس من أجل أن تباع للمحلات التجارية أو للمطاعم .

      مع العلم بأن هناك عشرات من العائلات الأسيوية في مرتبة هذه العائلة، تمارس الغش أو الاحتيال على الأنظمة في أعمالها التجارية، دون أن يكون لها صيت في وسائل الإعلام المختلفة، وأصغرها هم التجار الذين لديهم أسطول من الشاحنات وسائقوها من المواطنين ممن لديهم شهادات دون مستوى الدبلوم العام (الثانوية العامة) تجوب تلك الشاحنات ولايات المحافظات بالداخل من دون أن يكون عليها رقيب.

      هذه الشاحنات عبارة عن دكاكين تجزئة متنقلة، من يرى شكلها من الخارج، يعتقد في الظاهر بأنها مجرد شاحنة،تنقل مواداً غذائية للمحلات التجارية، بينما هي غير ذلك. وكنت أراها تشحن كلما نزلت مطرح،  في المنطقة التي بها مكتب الوالي. ومن الطريقة التي تصف بها البضاعة في الكراتين المفتوحة فوق بعضها،على هيئة رفوف على هذه الشاحنات؛ بلا شك أنها ليست وسيلة نقل فحسب، بل لابد أن تكون منفذ بيع متنقل.

      وعندما أذهب إلى إبراء في كل مرة، أصادف في الطريق نفس  الشاحنات و أحياناً تحمل نفس الاسم التجاري (للتاجر الأسيوي من تجار مطرح القدامى) طبع على أبوابها مثل... الخ.  توزع هذه الشاحنات  بضاعتها على المحلات التجارية الصغيرة، التي يشغلها غير العمانيين (غير معمنة)والتي تقع على طول الطريق لبيع غير المواد الغذائية.

      وذات مرة ذهلت وأنا في طريقي إلى المسجد عندما وجدت مثل هذه الشاحنات تجوب حتى سكك حارتنا الصغيرة - سيح العافية، ورأيت واحدة منها موقوفة أمام باب أحد بيوت سكان الحارة، فتحت أبوابها الخلفية على مصراعيها لتختار النساء ما يريدن من بضاعة أمام البائع الوافد وكأنها أمام دكان مفتوح.

      وفهمت فيما بعد بأن الفئة المستهدفة من التموين بهذه الشاحنات هن ربات البيوت أوالمواطنات اللواتي يتلقين دعماً أو مدرجن ضمن برنامج الشؤون الاجتماعية  (ربما برنامج مصدر رزق)، انظر كيف يفكر أولئك التجار المحترفون؟ هذا لأنهم درسوا التجارة، أو أنهم ولدوا تجاراً، يعرفون targeted market – market demand يمشون مع اتجاه السوق، لا يولولون (خليه يولي)، كغيرهم.

      وأصحاب هذا النوع من التجارة هم البنيان الذين اعتدنا أن نرى دكاكينهم في السكة الشرقية من سكة الظلام بسوق مطرح (خور-بمبه ).

      تجده جالساً - متمسكناً في دكانه على الأرضو معه (شوية أواني منزلية)، أوأدوات قرطاسية، وبعض مستلزمات الخياطة والملابس؛ بينما في السكة الخلفية عنده عدد من المخازن التي تُحَمَل منها شاحناته البضائع كل يوم ليتم بيعها خارج حدود مسقط أو في المناطق الداخلية.

      هذه الطائفة من الهنود محنكة بالتجارة، ولدوا وهم تجار بالفطرة، كالعائلة التي تُشَهر حالياًفي وسائل التواصل الاجتماعي، ورثوا التجارة أباً عن جد، تراهم منتشرون في كل مكان ليس في الخليج وشرق أفريقيا فحسب، بل حتى في بريطانيا نفسها، ومنهم من يحمل الجنسية البريطانية، أتوا إليها من أوغندا بعدما طردهم الرئيس السابق عيدي أمين، و يعرفون كيف يرسمون خطط البيع، ويكيفون أنفسهم مع القوانين والأنظمة التي تصدرها البلد والتي قد تضيق عليهم الخناق في مزاولة للتجارة.

      وللأسف نرى الشاب العماني يكتفي بأن يكون مجرد سائق في هذه الشاحنات، بالرغم ما يملكه من قدرات ثقافية، إذ أن البعض منهم يتقن اللغة الهندية بطلاقة بجانب ما تعلمه في المدرسة من اللغة الانجليزية، ولكنه للأسف يكتفي بأن يكون مجرد سائق فقط في هذه الشاحنات، لا يريد أن يتعب نفسه، ويرى كل يوم ما يدور بين تاجر الجملة صاحب المال، والوافد منفذ البيع الذي يرافقه في الشاحنة، وكيف تتم عملية البيع. لو أن هذا الشاب العماني سعى بقليل من الجهد لكسب ثقة التاجر الهندي واستحوذ على جميع عمليات البيع، ولربما تعلم سر المهنة كما عمل العمانيون في أفريقيا، وحموا أبناء بلدهم من شر الغش، والتحايل.

      القذف والسب والشتم والتشهير في وسائل التواصل الاجتماعي لا تجدي، عدا أنها تلفت نظر الأعداء وملوك الشر للاصطياد في الماء العكر. كيف لنا أن نناطح شعباً سمته الحكمة والهدوء، شعباً اُستُعمِر أكثر من قرن من الزمن وحرر بلاده من قبضة الاستعمار دون أن يتكبد طلقة رصاصة واحدة، شعباً يفوق تعداد سكانه بمئات الملايين سكان البلدان العربية مجتمعة، لا لديه طوائف دينية ولا سياسية تحارب بعضها كما لدى العرب، لديه عشرات اللغات والأديان، والعرب تجمعهم لغة واحدة ودينٌ واحد مع هذا كل منهم يهدر دم الآخر.

      لماذا لا نقتدي بإسلافنا، جدنا الإمام أحمد بن سعيد لولا تجارته واحتكاكه مع الهنود لما أتقن فن التجارة، ولما أدخلنا زراعة القرنفل في شرق أفريقيا، ولما حكمنا بلداناً تفصلنا عنها بحار كل هذا بفضل الله سبحانه تعالى ثم بفضل ما تعلمتاه من هؤلاء الجيران.

      هناك جهات اختصاص في بلدنا أوكلت إليها مسؤولية الرقابة والمحاسبة.إذن علينا أن نلتزم الهدوء وألا نسيء الظن في كل شيء، والله سبحانه تعالى يقول في الآية 12 من سورة الحجرات:

      يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ.

      وفي الآية 35 من سورة يونس:

      "وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ"

      هناك قصة رواها لي والدي ربما من المناسب أن أذكرها في هذا المقام، لعل البعض يستفيد منها:

      ذات مرة، عندما كنت أعاون المرحوم والدي في تجارته، في غير دوامي الرسمي، أذكر كنا نشحن بضاعة في سيارته (باص - van) بالسكة التي تقع شمال مكتب والي مطرح، والمقابلة لمكتب البريد - سكة الوادي (سكة - خور بمبه). أخذني الحماس دون أن أدري –بأن أستخف من ذلك التاجر الهندي الذي أبتعنا منه البضاعة، وهو تاجر مشهور من فئة التجار القدامى الذين سبق ذكرهم، حيث اعتاد والدي أن يشتري منه البضاعة لمحله التجاري بولاية إبراء.

      وأخذت أردد بعض المصطلحات التجارية باللغة الانجليزية، التي تعلمتها من الكتب، خلال دراستي في بريطانيا، متناسياً البيئة التي نعيش فيها،وكان ذلك التاجر المتواضع بإزاره الأبيض، المكسوف طرفه إلى الحزام، وقميصه الأبيض الشفاف صامتاً، ينظر إلى وجهي، بهدوء، وأدركت حينها وبسرعة، بأنه يقرأ تجاعيد وجهي، فَصَمتُّ، عندها بدأ الهندي يشغلنا بشيء آخر، وكأنه يريد أن يغير الموضوع. فأدركت بتصرفه ذاك؛ قد قرأ كل ملفاتي الشخصية، من تعابير وجهي.

      ولغة الجسد أو بما تسمى بالانجليزية body language هو أسلوب يُدرَّس للموظفين الذين يعملون في خدمة العملاء، أو البيع، وذلك بقصد التعرف على رغبات الزبون أو نقاط الضعف عنده، أو عن مدى استعداده لتلقي البيانات، وذلك من خلال تجاعيد وجهه، أو حركات الأطراف، وغيرها من حركات الجسد. الأخوة ممن درسوا التجارة أو إدارة الأعمال يعرفون هذا الأسلوب جيداً.

      وبعد أن تم الشحن وخرجنا من مطرح، في الطريق إلى إبراء، كسرت جدار الصمت الذي كان يخيم بيني وبين أبي إثناء قيادتي للسيارة، وبدأت أسأل والدي عن تجارته في أفريقيا بجمهورية بوروندي، قبل التحاقه بالجيش هنا في عمان، وتقاعده من الأمن.

      وعندما رأى والدي المزاج عندي قد تحسن، روى لي قصة، وقال لي: بأن في أفريقيا "الأحمق لا ينجح في التجارة، لأن الناس هناك هادئين، طبيعة أرضهم هكذا". وقال كثير من ذوي الدم البارد (مصطلح لهاديء الطبع)؛ أغنياء، لأنهم يملكون السيطرة على أعصابهم، ثم روى لي قصة عربي من ذوي الدم الحار(مصطلح- للإنسان العصبي العصبي) مع التاجر الهندي من الطائفة التي ذكرتها (طائفة البنيان).

      وذكر لي بأن هذا الشخص من القبيلة الفلانية بأرض العرب ، من سكان إحدى ولاياتها، كان يتعامل مع تاجر الجملة الهندي بالعاصمة (Bujumbura)، عاصمة بوروندي. وهذا الشخص ليس لديه دفاتر تجارية، معتمداً في تجارته على ذاكرته، وكان يشتري من التاجر الهندي بالإتمان، credit (بالصبر)،فكلما باع واحتاج لبضاعة نزل "Bujumbura" ليوفي ما عليه من دين، ويشتري بضاعة جديدة من تاجر الجملة الهندي، وربما كان هذا الرجل مسرفاً يخلط بين مصروفات التجارة ومصروفات البيت، أو أن لديه خلل في بيته، وهو عصبي المزاج... صفة غير مستحبة في التجارة.

      فرأى أخونا هذا، أنه كلما يوفي التاجر الهندي، لا يخلص من دينه، بل يزداد أحياناً، فشكك في صحة حساب التاجر الهندي فرفع يده وصفع التاجر الهندي من الغضب. ولاحظ بأن التاجر الهندي لم يتحرك من مكانه بعد الصفعة، "لعله أخذته الصدمة". نظر التاجر الهندي إلى أخينا وأشار بإصبعه إلى خده الأيمن وقال له باللغة السواحيلية engaza – hapa (زدني هنا أي في الخد الأيمن)، وظن أخونا بأن التاجر الهندي يستهزئ به وصفعه مرة ثانية في الخد الأيمن، ثم التفت إليه التاجر الهندي وقال له:sasa kichwa sawa( الآن الرأس تمام - أي أعتدل الرأس بالصفعة الثانية بدلاً ما كان مائلاً إلى اليمين) فخرج أخونا التاجر فوراً غاضباً من دكان التاجر الهندي.

      وبعد مضي بضعة أيام من تلك الصفعات التي تلقاها التاجر الهندي قرر أن يزور زبونه أخانا التاجرالعربي، كان كل هم التاجر الهندي هو كيفية استرداد ماله أكثر من كرامته التي أهين فيها في دكانه.

      وقرر أن يقوم بزيارة استكشافية أولاً، ليرى حال خصمه، فقام بالزيارة برفقة عامله المحاسب من بني جنسه إلى مقر إقامة خصمه، وطلب من المحاسب أن لا ينشغل بشيء آخر، فقط تفحص الموجودات التي في الدكان أو في بيت الخصم، وما يمكن أن يسترد به حقه. وعندما وصلا البلدة التي يقيم فيها الخصم رأيا الدكان مغلقاً، فقررا طرق باب البيت، فخرج إليهما الخصم، صاحب البيت بإزاره وقميصه، (لباس البيت). فتنبه التاجر الهندي بأن هناك شيء ما خطأ بسبب ما رآه من حال الخصم، "لماذا الدكان مغلق؟ و صاحب الدكان قابع في البيت في أوقاتساعات العمل؟".

      وعندما فتح لهما صاحب البيت الباب؛ أنبهر من وجود التاجر الهندي، ولكن التاجر الهندي طمأنه وبادره بالاعتذار، وقال: بأنه يأسف عن سوء الفهم الذي حصل بينهما، وسبب زيارته المفاجئة له؛ بأن ضميره أنبه، حتى أن أتى  ليعتذر، مما أخجل هذا الكلام خصمه التاجر العربي بتواضعه المصطنع، ولما لم ير التاجر العربي بداً إلا أن يرحب به داخل البيت وكان ذلك كل ما كان يتمناه التاجر الهندي حتى يرى الموجودات بداخل البيت.

      وعندما لاحظ التاجر الهندي بأن لا أحداً موجودٌ في البيت عدا صاحبه، سأله عن الزوجة وأجاب التاجر العربي بأنها في زيارة مع أهلها، مما جعل التاجر الهندي أن يأخذ راحته، ويطلب منه إعداد فنجان من الشاي. وبينما كان التاجر الهندي يحتسي الشاي مع صاحب البيت أخذ يلهي صاحب البيت بالحديث، حتى لا ينتبه للمحاسب الذي كان يلف ويتفحص الأثاث، ويتفقد ما هو ثمين من خلال اختلاس النظر هنا وهناك، فلاحظه صاحب البيت تلك الحركات، وسأل التاجر عما ببال زميله، فرد عليه بأن زميله من الأرياف بالهند لم ير شيئاً جميلاً كما هو في بيته. وبعد جلسة طويلة، أستأذن التاجر الهندي وزميله بالمغادرة، واستغرب التاجر العربي بأن التاجر الهندي لم يأتِ بسيرة عن الدين فأعتقد ربما من حسن أخلاقه لأنه أتى ليعتذر له وليس لمناقشة أمر الدين.

      اعتاد التاجر الهندي زيارة خصمه في بيته، ويطيل الجلوس معه، وعند انتهاء الزيارة في كل مرة يطلب من خصمه أن يهديه قطعة من الأثاث، بحجة أنه أعجب بها، وتعهد له بأنه سيخصم ثمنها من الدين الذي عليه. إلى أن بدأ التاجر الهندي يحضر معه شاحنة عند كل زيارة، واستطاع التاجر الهندي بحنكته أن يقنع خصمه بأن طالما أن الزوجة في بيت أهلها هذه فرصة لتغيير الأثاث، أو بيع موجودات البيت للتخلص من ديونه واستعادة تجارته. وأنه (أي التاجر الهندي) مستعد للوقوف معه في أزمته، إذا ما استرد نصف الدين من خلال شراء أثاث البيت، فرأى صاحب البيت المسكين أن تلك الفكرة قد تكون فكرة صائبة، خاصة بعد أن ارتاح وأطمأن على صداقة التاجر الهندي، وسارت بينهما ألفة وتبادل الأسرار الخاصة. لم ينتبه صاحبنا حتى أخذ التاجر الهندي كل ما في البيت من ممتلكات، ولم يتبقَ له سوى فراشٌ ينام عليه.

      وبعد ما رأى التاجر الهندي أنه استرد ماله وأكثر من حقه، قطع الزيارة، وأخذ التاجر العربي  يتردد إلى دكان التاجر الهندي في Bujumbura يترجى صاحبه في مساعدته كما وعده، ويعاتبه عن قطع الزيارة، حتى أن جاءته اللطمة من التاجر الهندي حينما قال: بأنه لا يستطيع الجلوس على الأرض، إذ لم يعد في البيت كرسي ليجلس عليه، (أي في بيت العربي)، فخرج صاحبنا من دكان التاجر الهندي يمتلكه الحزن، وباع ما تبقى عنده وما يمكن بيعه ثمن نول سفره وعاد إلى وطنه.

      1. عبد الله السناوي - شارك