1. الحياة في مطرح ومعايشة والدي -8 د

      خروجي من بيت الفلج:

      في يوم من الأيام جئت من خيمتي (أو التم – بو- وه)، كما كانت تعرف في المركز،  وذلك للسلام والتحية على العم عبد الله في ثكنته، باعتباره صديقاً حميماً للوالد، والشخص المكلف بالإشراف على إقامتي من قبل والدي؛ في ذلك الوقت في بيت الفلج. وربما كان العم عبد الله في ذلك الوقت يشغل أميناً لواحد أو عدد من مستودعات التموين المركزية في المعسكر؛ عرفت عن طبيعة عمله من خلال بعض (الكولية) والكوليهي عبارة كانت متداولة في ذلك الوقت بين أفراد الجيش وتعني عامل غير ماهر، حيث كان يعملون تحت أمرته عدد من العمال الذين يقومون بعملية الشحن والتفريغ من وإلى المخازن أو المستودعات التي يرأسها أو الواقعة في نطاق مسؤوليته.

       كنت استرق السمع عندما يتحدث أولئك العمال عند عودتهم عن متاعب العمل.

       كانت الثكنة التي يعيش فيها العم عبدالله مع زملائه الجنود شبيهة بالتي تحدثت عنها في معسكر التدريب بالغبرة، مليئة بالجنود، ولكن التعامل فيها ليس بنفس الصرامة والشدة التي شاهدتها في  الغبرة، هناك مرونة حتى أن بعض  الجنود يستخدمون (موقد - ستوف) لكي يطبخوا غداءهم، الموقد (يعمل بالكيروسين) داخل الثكنة أو يقومون بتعديل الأكل الذي يأتون به من المطبخ العام وتعديله بما يتناسب أذواقهم.

       كان يقيم في هذه الثكنة مع الجنود شاب أسمر اللون من مواليد تنزانيا عمره ربما لا يتجاوز العشرين سنة يعمل (اردلي، أو  هوس - بوي) يعني صبي أو فراش بأحد بيوت الضباط الأجانب وقد اعتاد الجنود أن يمازحونه بكلام رديء هابط، إلى درجة أنه أصبح مخنثاً  وصل به السلوك: إلى أن لا  شيء يمكن أن   يستحي منه. ، وكلما رأيته أو قابلته؛ عندما اذهب هناك كنت أتجنبه،  وقد أعتاد أن يتحدث هذا الشاب بما يناسب مستواه من الانحطاط، ولا شك أن  المسئولين الأجانب من أسيا يستخدمونه أو بما  نعرفه بمصطلح وقتنا الحاضر بالتحرش الجنسي.

       وعندما قدمت لرؤية العم عبد الله، بعد عودتي من المدرسة من مطرح كنت مرهقاً من مشوار المشي الذي كنت أقطعه يومياً ذهاباً وإياباً من المدرسة في مطرح إلى معسكر بيت الفلج.

       وفي ذلك اليوم وجدت هذا الشاب، كأنه مسلطٌ علي، وبدأ بسخريته المعتادة كما أعتاد أن يفعل مع غيري، وكان يتواجد في المكان أحد الجنود من أهل نزوى، وهو جار للعم عبدالله بسريره، أو (الكرفاية) كما يطلقون على الأسرة (بفتح الهمزة وتشديد الراء). وأخذ هذا الشخص النزواني (من سكان نزوى) يسايس بيننا  (باللهجة العمانية يعني يفتن، ويبث نزعات الشر بيننا، مستخدما أسلوب النزعة القبلية، ويذكرني بشجاعة ورجولة أهل الشرقية - المنطقة التي انتمي إليها محركاً عندي شيطان الشر، ولما بلغ ذروته ولم يكف ذلك المستهتر عن مزاحه اللاذع السخيف، لم أتمالك نفسي ورأيت بأن لابد من إيقافه عند حده، وأخرس لسانه، طالما لا يسمع النصائح ولا يوجد من يوقفه. ورأيت حتى لو تركت المكان لن يرجعه هذا عن مزاحه في المرة القادمة، وسيستمر الحال هكذا ولن اشعر بالاستقرار النفسي، طالما بقي ذلك الشخص، ورأيت حتى لا أكون عرضة للقيل والقال؛ و لا أعطي أيضاً الحاضرين فرصة أن يتخذ علي بأني من أشكاله؛ هكذا قدر الله بما شاء؛ سحبت الباكورة من تحت فراش العم عبد الله الذي كان متواجداً في عمله، وما هي إلا ثواني؛ حتى أنهلت على هذا المستهتر بالضرب رامياً كل ثقلي عليه أبرحه ضرباً؛ بتلك العصا شمالاً ويميناً مستبقاً ومتداركاً رد فعله حتى لا ينال مني، لأنه كان اقوي  مني بدناً، وأكبر مني سناً، ضربته في مواضع عطلته عن الحركة، حتى سال الدم من أنفه.

       وما هي إلا لحظات؛ حتى رأيته يركض صوب القلعة، متجهاً نحو الشرطة العسكرية، ولما رأيت ذلك بقيت ساكناً في مكاني لم أتحرك، لأرى ماذا سيحدث. وبعد بضع دقائق أتى الشخص ومعه العسكري (أبو شنب)، كما كان يلقب (وهو بلوشي من مكران برتبة شاويش) أخذني أبو شنب مباشرة إلى السجن، وبعد حجز دامت مدته 24 ساعة، قدمت للمحاكمة في التاسعة صباحاً عند المسئول الإداري للمركز وهو بريطاني برتبة مايجر يدعى (أندر- سون), وحكم علي بالسجن دون أن يحدد مدته، بعد أن علم بأني مدني، ووجودي كان دون علمه - تحت كفالة (الميجر داني - سون) من بني جنسه؛ وهو الشخص الذي لا يرتاح إليه ولا يطيق سماع اسمه.

       كان السجن يتكون من عدد من الغرف بسيطة قد لا يتجاوز عددها عن عشر أو أربع عشرة غرفة، تقع جنوب القلعة التي بها إدارة قيادة الجيش، بها مكتب (الكارنل ماكس – ول) العقيد المسئول عن إدارة الجيش في ذلك الوقت، وهناك شخص آخر بريطاني يدعى (والتر- ـفيل) برتبة (برجيدير) وهو أعلاهم رتبة، ربما كان العم راشد بن عامر يعمل سكرتيراً في مكتبه، ولكن قلما كنا نسمع ذكر اسمه وهو كما علمت كبير القادة وله اتصال مباشر مع السلطان سعيد بن تيمور.

       هذا الميجر: (أندر- سون) رأيته من أغضب خلق الله - في الأرض، وكان الناس يتحدثون عنه داخل المعسكر وخارجه في مطرح من شدته، ويقال حتى أن ذبابة تغضبه، وإذا تضايق منها لا يستبعد أن يطلق عليها النار بمسدسه، وكان لا يعطيني الفرصة، حتى لأتنفس أمامه - وعلي أن أستمع إليه فقط... أهز رأسي كما تفعل الشاة، وأردد عبارة: yes, sir، وكان ذلك عندي من رابع المستحيلات، حتى إني لا أعرف كيف أنطق هذه الكلمة، وكنت أراه أمامي بأنه شخص متسلط، لا حول لنا ولا قوة بوجوده... ومن شدة كرهي لهذه العبارة أتعلثم؛ وتذكرني بالعبارة الشهيرة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"،وخاصة عندما تأتي من أجنبي مثله.

       فكلما حاولت أن أقول شيئاً كان يشتد غضبه، ويدق بقبضة يده على طاولة مكتبه، فيقوم، ويقعد، كما كنت أرى ـ هتلر، في الأفلام عندما يغضب على جنوده، وهو فعلاً يشبهه، لكن بدون شارب. وكان اللفتاننت شنون (الملازم البلوشي) من سكان مطرح يحاول تهدئته بالاعتذار نيابة عني ولكن دون جدوى، وكان النقاش يجري بيننا باللغة العربية المكسرة، وفي النهاية سمعته يأمر الملازم شنون بأن: يرميني بخار (البخار يعني السجن) لا أدري أصل الكلمة ولكن كانت من العبارات الكثيرة التداول في الجيش آنذاك. .

       وكان هذا الميجر عندما يمر مطرح متجهاً صوب مسقط حيث وجود القنصلية البريطانية تهابه الناس، من المارة وتبتعد عن الشارع. وإذا صادف أن رأى أحد المارة من الجنود في المساء باللباس المدني يتجول في السوق، ولم يؤدي له التحية المعهودة فإنه يقطع مشواره؛ ويرجع ليأخذ الجندي في سيارته (اللاندروفر) الكشفية، ليذهب به على الفور إلى سجن المركز؛ يودعه ثلاثة أيام بدون محاكمة، ثم يطلق سراحه، ربما كان هذا الميجر يحس بمتعة نفسية من تصرفه هذا.

       عندما كنت أمامه إثناء (محاكمتي)؛ كنت أرد على أسئلته الاستفزازية، مهما اشتد غضبه، لأبرهن له بأن وجودي في المركز كان قانونياً، وتم بموافقة (ديني ـ سون) ولكن كان الغضب يعمي بصره، لا يرى إلا نفسه، وأمر على الفور بسجني وإبعادي عن  - المعسكر، بالرغم ما بررت له عن وجودي في المركز،وعندما قلت له بأن وجودي كان بأمر من الضابط، (الميجر دينيسن) وأطلب منه بأن يعلمه بقضيتي، يشتد غضبه، ولا يرى إلا نفسه ويدق طاولة مكتبه بقبضة يده غضباً ويردد: " أنا المسئول...أنا المسئول هنا وليس ديني سون؟". وعندما وجدت لا فائدة من التحدث معه لزمت الصمت حتى لا اسمع مزيد من  الإهانات وأكثر من ذلك، وكنت منتظراً قراره؛ وكان القرار أن تحملني سيارة (لاند - روفر)، وترميني خارج حدود مسقط وكان ذلك الوقت فنجا بولاية بدبد حالياً، إذ هي تقع خارج حدود مسقط، ولكن رحمة من العسكر أنزلوني مطرح دون علمه، ومن هناك ركبت شاحنة أولاد سيف بن محمد إلى إبراء.

       وعندما وصلت إبراء استقبلتني والدتي بشوق وتلهف، تسألني عن أحوال أبي وقلت لها : بأنه في ظفار، ورأتني أتياً إليها خالي اليدين؛ وعندما سألتني عن الدراسة قلت لها بأني في إجازة، وبمرور الوقت سألتني عن موعد الرجوع إلى مطرح، قلت لها بأنه لم يحن الوقت بعد.

       وذات مرة، وبسوق السفالة (القديم) وبشكل غير متوقع، وبدون مناسبة، عزمت عبيد بن مسلم جارنا في الحارة والمرحوم بدوي بن حمود لتناول القهوة بعد عودتنا من السوق، أو ربما في ظهيرة اليوم التالي لا أتذكر، وأثناء تناول القهوة سمعت والدتي من بدوي الحديث  الذي كان يدور بيننا، إثناء  تناول القهوة، حيث كانت والدتي تسترق السمع تسترق السمع من خلف الجدار (وكان المرحوم بدوي يتحدث بصوت عالي، يمجد، ويذكرني بما فعلته بذاك الشاب، ويشيد برجولتي أمام عبيد بن مسلم) ربما كان ذلك سبيل الإطراء منه، عن غير قصد، على سبيل المجاملة، بمناسبة تلك العزومة، بينما كانت والدتي تسترق السمع من خلف الجدار وعرفت عن الموضوع بكامله ، وأقبلت على الرجل تسأله عن تفاصيل الحكاية، أو ربما أنها شكت عن سر تلك العزومة خاصة انها كانت رسمية بها تقدوم.

       

      والتقدوم: وجبة عمانية خاصة تقدم مع القهوة للضيف رسمياً وهي عادة ما تكون من أكل مطبوخ من أهمها السيويا (الشعيرية)، أو الغراميل خبز صغير على شكل دائري يأكل بالعسل أو السكر، أوخبز الرخال مع العسل، أو الحلوى العمانية.

       ولست أدري إذا كان والدي لديه خبر؟ عندما كنت في السجن؟ ولكن لا شك بأن العم عبد الله اخبره بذلك عن طريق برقية لعله  أرسلها من المعسكر، ولم يكن بوسع والدي أن يعمل لي شيئاً وهو في أرض المعركة، فإنه يعرف العقوبة العسكرية أقلها السجن، و يعقبه الفصل والترحيل - سبحان - الله، لم أكن مستأنساً من زيارة العم عبد الله لي في السجن! لست أدري لماذا؟ربما لم أجد من كلامه ما يفيد. 

             وكان السجن انفرادياً في غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها عن 2×2 متر بها ثلاثة جدران والجدار الرابع هو البوابة من قضبان الحديد، في الأمام. وسقف السجن لا يتجاوز ارتفاعه عن مترين أوربما أكثر أو أقل بقليل، وحراس السجن من العسكر البلوش المكرانيين غليظي الطبع، كثيفي الشوارب: (من الذين يطيلون الشوارب) وكان من الصعب أن تجد منهم من ينطق كلمة واحدة بالعربية، وكنت أكرر لهم العبارات كلما أردت الذهاب إلى دورة المياه، و مساحة الحمام لا تتجاوز أكثر من 75×75 سم ومكان الجلوس لقضاء الحاجة مرتفع وطريقة الجلوس كالحمام العربي ولكن بدلاً من المرحاض حفرة بها دلو وكلما امتلأت بدلت؛ تأخذ للتفريغ.

       وكان ذلك السجن بالنسبة لي درس شعرت فيه بالوحدة بعيداً عن أهلي، وأمام أناس غرباء اقصد الناس خارج السجن، ولكن كان أملي هو أن ينتهي كل شيء بسرعة لأعيد ترتيب حياتي مرة ثانية، لأنني كنت شديد الثقة والاعتماد على الذات، خاصة في الشدائد، حيث كنت أشعر بأن علي مسؤوليات عائلية، وأن أحل محل والدي في تولي مسؤولية البيت عند  غيابه، هكذا- علمتني الحياة، وأكسبتني مهارة تحمل المسؤوليات.

       

      1. عبد الله السناوي - شارك