1. الصورة (F-11)

      الحياة في مطرح ومعايشة والدي -9د

      مرض أختي:

      تزوجت أختي الكبرى وسكنت مع زوجها البيت الحدري، وعندما انتقلت العائلة للسكن في حلة (منازي موجا) بمطرح، ولدت ابنتهما، وكانت الولادة في مستشفى السعادة الواقعة خلف متحف الزبير، بالقرب من مدرسة البنات بمسقط؛والمستشفى عبارة عن مبنى قديم به فناء وأشجار بسيطة تستظل تحتها الحوامل عند مراجعاتهن الطبيب.

      أتذكر تماماً، ولدت ابنة أختي في هذا المستشفى ثم تلتها ولادة أختي الرابعة في نفس المستشفى، وذلك إثناء غيابي في دبي، وعندما رجعت العائلة إبراء، بعد ولادة ابنة أختي بأقل من سنة، لم تكن الأحوال على ما يرام، لقد أصيبت أمها بمرض نفسي، وصداع نصفي طرحها الفراش، وظلت حالتها غير مستقرة مما جعل حالها يدفع بوالدي إلى التردد بين المعالمة والأطباء لإيجاد العلاج لها. 

      وبعد أن استقر بي المقام في دبي، لم أعرف عن وضعها الصحي شيئاً، لأن والدي ما كان يذكر لي في مراسلاته عن حال أختي، حتى أكملت العام الدراسي وعدت إلى إبراء لقضاء إجازة الصيف، ولكني سررت عندما وجدت أختي حالها جيد ومليئة بالحيوية والنشاط.

      كعادتهم وجدتهم في ضاحيتنا المحضارة؛ (مزرعة نخيل، تقع في منطقة البلاد، يحضر إليها الأهل في القيظ،ويقيمون فيها إقامة مؤقتة في فصل الصيف، أثناء النهار للتبرد من لهيب الحر؛ وهي عادة متبعة من عهد جدنا حمود بن جندب).

      وبعد مدة، عاود أختي المرض مرة  ثانية أثناء وجود والدي عندنا لقضاء إجازته، وبعد أربعة أيام من العناء توفيت أختي رحمها الله.

      وكنت حاضراً يوم وفاتها فقد توفيت قبيل صلاة الفجر بقليل، في فصل الصيف، وأذكر أن جاء والدي ليوقظني للصلاة، كنت نائماً في حوش البيت مقابل دهريز العلوي من البيت الشرقي وعندما استيقظت رأيت الوضع غير طبعي، حيث كان البيت يسوده الهدوء وكان جسم أختي مغطى، وبجانبها واحدة من أهلي لا أتذكر من هي؟ والدتي أم عمتي عزيزة (ابنه خال والدي) إحدى المخلصات والوفيات؛ وقفت بجانب والدتي في محنها (في السراء والضراء)، وكانت مقربة لدى والدتي جداً أكثر من غيرها، تتقاسمان لقمة العيش سوياً.

      وعندما جاء والدي ليوقظني لصلاة الفجر كان مكمماً بمصر على فمه وخرجنا من البيت مع بعض لتأدية الصلاة وبعد الانتهاء من أدائها؛ سمعته يقول للأمام (عامر بن محمد بن حمود)، "لقد توفت عندنا البُنَية رياء".

      تعب والدي كثيراً من أجل إيجاد علاج لأختي وتردد كثيراً بين الأطباء والمعالمة، وكان باله دائما مشغولاً، وقلقاً على ابنته، حتى أنه طلب نقل عمله إلى معسكر بيت الفلج بمطرح الذي سبق ذكره؛ ليكون قريباً بقدر الإمكان من عائلته حتى يسهل عليه تتبع أخبارها، ولو كانت المسافة مازالت بعيدة، ولكنها أقرب من ناحية الاتصال من المراكز التي كان ينقل إليها. وبفضل صحبته مع المسئولين وعلاقته مع الضابط البريطاني "الميجر هيل" جعله لا يفوت فرصة عندما تتاح له ويرى ذلك ضروريا فيختلس الفرصة حتى ولو لبرهة بسيارة رئيسه الـ "لاندروفر" للاطمئنان على صحة ابنته في إبراء، بالرغم من أن المسافة كانت تصل إلى ست ساعات بسبب وعورة الطريق.

      في ظني بأنه قد أسيئ علاج أختي نتيجة للظلام الدامس في الرعاية الصحية في ذلك الوقت، وعدم توفر المستشفيات المتخصصة، والاعتماد على مستشفى واحد بدائي التجهيز  ( مستشفى تومس).

      (تومس أو طومس) كما كان يعرف في السابق على اسم الطبيب، وهو مستشفى للإرسالية الأمريكية في مطرح وربما أسس في عهد السلطان تيمور أو السلطان  فيصل - الله أعلم ـ يقدم المستشفى العلاج المجاني وهدفه الغير الظاهر هو التبشير بالمسيحية، تغير اسمه فيما بعد إلى مستشفى الرحمة وكان المستشفى قائماً حتى عهد السلطان قابوس، وقد بيع الجزء الرئيسي منه لأحد التجار، وأقيم في الجزء الشمالي منه مركزاً صحياً حكومياً. المعلومات الصحيحة عن المستشفيات في مسقط ومطرح يمكن إيجادها في الموسوعة العمانية.

      هكذا كان الحال العلاج كان بالاعتماد على الشعوذة كما كان الذهاب إلى مسقط صعب ويتطلب وجود والدي أو ابن خالي  لتوفير المسكن ودفع تكاليف العلاج.

      والحقيقة يجب أن تقال؛ أعرف ما سأقوله قد لا يعجب البعض منا، ولكن من باب الأمانة التاريخية في حق أختي ـ رحمها الله ـ وأبنتها، كانت هناك للأسف إساءة في معاملتها، ولم تكن حياتها مرضية - نتيجة لظروف وسلوك خاطئ، وإهمال، وقد عانت أختي كثيراً في إخفاء حقيقة معيشتها عن أهلها لتجنب المشكلات العائلية، مما أنعكس ذلك  سلبا على صحتها.

      البيت الحدري:

      كنا نسكن بيت الحدري قبل أن تنتقل منه والدتي إلى البيت الشرقي بعد سفرنا أنا وأبي إلى إفريقيا، بسبب ما كانت تراه من أشباح في ذلك البيت وما لحقها منه من أمراض نفسية، لوحشة المكان، وقد تأثرت أختي أيضاً بما كانت تراه من أفعال سلبية... وكانت كلما غادرها زوجها إلى عمله بعد انتهاء إجازته أتت للسكن عندنا بالبيت الشرقي، وكان هذا بمثابة متنفس لها عما كانت تعانيه من خزعبلات في ذلك البيت، وكانت أختي - يرحمها - الله كتومة تتكتم على كل ما يسيء في معاملتها.

      تشخيص المرض:

      تشخيص مرض أختي غير معلوم في ذلك الوقت في إبراء لم يكن يوجد أي مستشفى عدا عيادة حكومية واحدة لجميع سكان  المنطقة الشرقية، عيادة صغيرة وبدائية، سبق أن ذكرتها لا تعالج أكثر من إمراض شتوية، وبها طبيب واحد، من آسيا يرتشي، وقد استدعيناه ذات مرة لتشخيص حالة أختي في البيت وكانت وصفته الطبية لا تتجاوز عن أمراض الشتاء، وكان من أئتمناه عليها  لا يدري عنها شيئاً نتيجة للإهمال إلى أن جاء عند وفاتها وبعدها اختفى، وبعد وفاة أختي ضاقت بنا الحياة في إبراء وانتقلنا بعد ذلك نهائياً إلى مسقط وسكنا دارسيت. 

      قرار الإقامة في دارسيت:

      وفي رحلة العودة للدراسة للسنة الثانية وجدت أبي قد أتخذ قراراً بتحويل دراستي إلى مدينة العين بأمارة أبو ظبي، لوجود سكن داخلي خصص من قبل حكومة أبو ظبي لاستقبال الطلبة العمانيين، مساهمة من حاكمها الشيخ زايد في نشر التعليم واستقبال العمانيين التي لا تستوعبهم المدارس في بلادهم، وذلك نتيجة العدد الكبير الذي فاق السعة الاستيعابية للمدارس في عمان.

      وحينما كنت في إمارة دبي في نفس الوقت كانت هناك مجموعة من إبراء تدرس في إمارة أبوظبي، وهكذا بعد أن رتبنا وثائق السفر توجهت أنا وأخي علي إلى مدينة العين برفقة ممن سبقونا للدراسة هناك ونزلنا في محل إقامة عمي ناصر بن منصور بحلة المعترض الذي كان يعمل هناك. وبعد انتظار طويل في مسكنه، انتقلنا إلى السكن الداخلي الذي وفرته الحكومة هناك والتحقنا بالدراسة. (الصورة الصورة (F-11) مع أبي التقطت لنا بأستوديو كان يقع على يمين عمارة طالب بمطرح في إثناء وجودنا لأستخرج جواز  السفر.

      وعندما عدنا في إجازة الصيف وجدنا أبي قد انتقل بالعائلة إلى دارسيت. وحكت لي والدتي بأن أبي كان لا يستطيع أن يوفق بين عمله وشؤون بيته، لكثرة الأمراض الغريبة التي كانت  تصيب أفراد عائلته، وتأخر عن كثير من الدورات والترقيات في عمله، بسبب المشاكل الأسرية. وقالت لي: "في إثناء غيابنا للدراسة، مرضت أختي (التي تليني)، أصابها شلل في ركبتيها أعاقها عن المشي ونقلوها إلى مستشفى - طومس بمطرح، وأخذت لها الأشعة ولم يستبن شيء من مرضها. وفيما بعد وصفت لهم صديقتها زوجة صديق والدي، المقيمين عندهم في حلة العريانة بمطرح، بأنه يوجد معلم يمكن أن يفيدها وبعد مقابلة المعلم أوصى بأن يعمل لها(نذر) ـ أي يذبح لها شاة ويفرق لحمها على سكان الحارة؛ و بدأت تتماثل إلى الشفاء بالتدريج مما ساعد أبي في اتخاذ قراره النهائي ـ بعد أن كان متردداً ـ بالانتقال إلى مسقط وسكنوا دارسيت بحلة الطويان في بيت من العريش، مستأجر يقع غربي مسجد النور الحالي".

      وهكذا استمر حال أبي، يعمل في بيت الفلج ويعيش في دارسيت - لا تبعد القرية عن المركز أكثر من ربع ساعة مشياً على الأقدام. وفي السادسة صباحاً يخرج وزملاؤه من سكان الحارة إلى العمل ويعود في التاسعة وقت إفطار الجنود ليفطر مع أسرته، ثم يعود للعمل إلى فترة ما بعد الظهر وأحيانا يأتي مسكنه بسيارة العمل. وجود الأسرة بدارسيت خففت عنه أعباء كثيرة وأراحته من  مشقة السفر إلى إبراء التي كانت رحلتها تستغرق أكثر من ست ساعات بسبب وعورة الطريق.

      لقد زال عنه القلق الذي كان يراوده على صحة أولاده، وأصبحت حالته النفسية أفضل بكثير عما كانت عليه في السابق وهو يعيش متنقلاً بين المراكز المختلفة.

      إثناء خدمة والدي في الجيش حرص على أن يتعلم كل شيء ما يفيد حياته العملية بعد أن يترك الخدمة العسكرية، خاصة الأعمال المهنية، وساعده على ذلك خبرته السابقة في الكتابة والقراءة باللغة اللاتينية (الفرنسية والانجليزية) التي اكتسبها من خلال عمله عندما كان تاجراً في إفريقيا.

      شعبية والدي، وحبه لعمله كأمين مستودع لقطع غيار السيارات وللأسلحة في السابق، والأعمال المهنية الأخرى، أكسبته خبرة وحباً للمهنة، وكسب ثقة مدير النقل بالمعسكر،(الميجر ـ هيل)الذي كان راضياً عن عمله وأدائه؛ مما كفل لوالدي الاستقرار،فأصبح والدي متفرغاً في المساء لملاقاة أصدقائه في مطرح التي كان يمشي إليها راجلاً على قدميه.

       ومن الناحية الأسرية فقد أصبح من السهل عندما يمرض واحد من أفراد أسرته مراجعة العيادات التي بدأت تتكاثر،وكنت أنا وأخي علي كالمعتاد نأتي إليهم لقضاء إجازة المدارس ونعود إلى أبو ظبي للدراسة حتى عام 1973م عندما قرر أخي علي الانضمام مع أبي إلى جهاز الأمن الداخلي والتحقت أنا في بعثة لدراسة هندسة الاتصالات.

      1. عبد الله السناوي - شارك