-
-
من ممرات حياتي -ج1د
هاجس الكتابة
لست أدري إلى متى سأكون هكذا متردداً دائماً عن الكتابة عن نفسي بالرغم من وجود رغبة شديدة بداخلي تدفعني إلى الكتابة، كم من ورقة وكم من دفتر مزقته بعد أن سهرت ليالي لكتابة ذكرياتي وعن مسيرة حياتي، هذه الرغبة لم تكن وليدة الأمس بل كانت لسنين طويلة منذ أن سافرت أول مرة للدراسة.
الوحدة والغربة والاعتماد على الذات جعلتني شخصاً انطوائياً بعض الشيء، ولكن هذه الانعزالية ليست بسبب معاناة نفسية، أو لأني لا أحب مخالطة الناس بالعكس أحب معاشرة كل الأجناس، إلا إنني أتجنب الفوضى التي تلخبط (تربك) برامجي ومسار حياتي اليومية وأكره الضوضاء والكلام غير المفيد...، إذ كثيراً ما أتضايق عندما أسمع اللغو في مجالس الأقارب والأصدقاء عند الحديث عن أمور شتى غير هادفة، أو حديثاً يمس أعراض وخصوصيات الناس، والمتحدث أحياناً يطلق عنان لسانه وكأن ذلك شيء مباح عنده لا رقيب عليه وربما هو يراه وسيلة لتسلية جليسه، وكذلك الخوض في غيرها من الأمور التي لاتهم حياة الناس،فهو ليس إلا نميمة وغيبة في الآخرين، وأصبحت هذه العادة سلوكاً شائعاً في معظم المجالس مع الذين يدعون الثقافة والتحضر.
أنا لست متجنياً على أحد ولكن أحب أن أحكي الواقع بالرغم من مرارة الصدق، وربما يعود هذا المنهج لطفولتي ونشأتي التي نشأت عليها أنا وأخوتي على المثالية التي كانت أكثر من اللازم، وأيضاً تحملي المسؤولية في سن مبكرة خاصة بعد أن التحق والدي بالجيش في منتصف الستينات من القرن الماضي بعد عودتي معه من رحلته الثالثة لإفريقيا.
كنت أحلم دائما بالمستقبل الذي أراه برؤيتي الخاصة، بعيداً عن المعتاد الذي كان سائداً في ذلك الوقت وكنت أتمنى الحداثة التي أرى أنه قد تحقق البعض منها في عصرنا الحاضر في عمان. وربما البعض من أبناء عصري في ذلك الوقت وأيضاً أقاربي كانوا يرون سلوكي أمراً شاذاً نوعاً ما، لأنهم كانوا ربما لا يدركون الحقيقة بسبب عدم تتبعهم وإطلاعهم، فخلق ضيق الأفق لبعضهم ولقلة المعرفة في بعض الأمور، ولكن ذلك أمر طبيعي ليس بغريب، ويوجد في كل المجتمعات كما نعرف، و كنت أرى المستقبل بمنظور مغاير وأترقبه بصورة أكثر استعجالاً مما ينبغي، وعندما حصلت على البعثة الدراسية إلي مصر في مطلع السبعينات،فكأن الحلم الذي كان يراودني قد تحقق، ولطالما كنت أحلم به بعد أن عشقت ارض الكنانة، من خلال متابعتي للمذياع في حقبة الستينات، ونظرتي لمستقبل ألأمة العربية في زعيمها جمال عبد الناصر ورموز الثقافة من المصريين والعرب التي احتضنتهم مصر..
وكنت أسأل نفسي دوماً لماذا الكتابة؟ وما الهدف؟ لم أجد الرد ومنذ مدة طويلة كانت تراودني فكرة الكتابة، ربما منذ أن كنت طالباً بإمارة دبي في منتصف الستينات، عندما أحببت الكتب فكنت مولعاً بالمكتبات، لم يكن هناك شيء معين كنت أود الكتابة عنه، لعل السبب الانطوائية عن الناس والتي غلبت على طبعي فجعلتني قليل الاختلاط والاحتكاك بهم، كسائر بعض الأصدقاء، وقد يعود السبب أيضاً على الأسلوب الذي نشأت عليه أنا وأخوتي، من عدم إتاحة الفرصة الكافية لنا في طفولتنا للاختلاط بالعامة كثيراً كما كان معتاداً.
دونت كثيراً من الملاحظات في مذكراتي المبعثرة هنا وهناك، عن شعوري بالآخرين وأحلامي وطموحي الذي لم يتحقق، وعن نظرتي في الحياة وخلافها من الملاحظات والأفكار والأحلام التي تراودني من وقت لآخر وعن كل ما كان يراود شخصاً في سني، وسن الشباب في ذلك الوقت.
وما أذكر بدأت عندي فكرة الكتابة عندما كنت طالباً بإمارة دبي في الستينات بسبب شعوري بالوحدة وكنت شغوفاً للتعلم ومتابعة المعارف بالرغم من صغر سني وهذا ما جعلني كثير التردد على المكتبات العامة خاصة المكتبة العامة بإمارة دبي التي تقع عند مرسى السفن الشراعية بخور ديرة لأقرأ القصص وللمطالعة العامة والتي كانت دائماً تستهويني لقتل وقت الفراغ عندي في تلك الأيام.
وعندما عدت إلى عمان لقضاء العطلة الصيفية كانت أفكاري قد تغيرت،فقد كانت مغايرة عما كانت عليه قبل رحيلي إلى دبي للتعليم ولو أن هذا كان ذلك شيئاً عادياً، وعادة ما يحدث للمراهقين، ولكن لم أكن أستطع بلورة شخصيتي وكان ما يغلب على طبعي التمرد أو العناد في بعض الأحيان، ولكن هذا لم يخرجني عن المألوف عن طاعة الوالدين،وكنت دائماً وفياً ومخلصاً لأهلي وممنوناً لوالدي ومسئولاً عن أسرتي ربما بسب الظروف القاسية التي مرت بنا, وعناء الوالد في معركته مع الحياة لتوفير سبل العيش الكريم لنا، وحبه في تعليم أبنائه.
كانت الكتابة بالنسبة لي هي الوسيلة الوحيدة التي أرى فيها التعبير عما يكمن بداخلي من شعور، خاصة عندما تحصل لي بعض المضايقات أو ينشأ احتكاك ـ على سبيل المثال ـ مع والدي بسبب اختلافنا في الرأي ووجهات النظر التي عادة ما تكون تحدث عند المراهقين وآبائهم، وقد كانت تلك هي الوسيلة الوحيدة التي الجأ إليها للتفريغ عما بنفسي، ولأعبر فيها عن وجهة نظري ولأنفس عن همومي على الورق، وكذلك لتقييم الذات وتجنب الخطأ.
أيضاً لم تخل فترة السبعينات من الكتابة عن معاناتي كلما أتيحت لي الفرصة وذلك في الفترة التي كنت فيها طالباً بمدينة العين بإمارة أبو ظبي ومن ثم إلى مصر، وأيضاً الكتابة عن معاناتي مع الأصدقاء والأحباء، وعما يحدث من سوء فهم، أو عندما يراودني الأرق في الليل وأذكر كيف كانت تمر بي فترات من السهر والسهد تصلني بمطلع الفجر في القاهرة، دون مؤنس لوحشتي، عدا المذياع.
فقد كنت أدون من وقت لآخر في فترة الثمينات والتسعينات من القرن الماضي، كلما اختليت بنفسي أو حين لا أجد ما يشغلني فيسبب لي إحساساً بالفراغ، وغالباً ما أشكو همومي على الورق، ولكن للأسف لست ادري أين ضاعت تلك المدونات، ومنذ ذلك الوقت وأنا لم أستقر في رأي، فكلما كتبت عن شيء تارة مزقته أو أهملته تارة أخرى، كل ذلك بالرغم من نصائح الأصدقاء وإلحاحهم لي بكتابة مذكراتي خاصة بعد تقاعدي عن العمل الرسمي في يوليو من عام 2003م.
وكان السؤال الذي يلح على نفسي من حين لآخر ماذا أكتب؟ ولماذا أكتب؟ هل ما أكتبه عن حياتي وتجربتي في الحياة مجدٍ؟ أم أكتب لأنني أود أن أكتب؟، أم اكتب عن خبرتي في العمل مثلاً؟ أو عن رأيي في المجتمع الذي عشت فيه؟ أم كوثيقة للأجيال القادمة من الأسرة؟ وهل هذا مهم؟ و هل أنا مؤهل للكتابة عن نفسي؟ وما الغاية من الكتابة؟ وأتساءل: ما بالك إذا كان هناك ملايين من الكتب تحكي عن عظماء وعلماء وأبطال ومشاهير في مختلف الفنون والمعارف لا تقرأ كتبهم؟ أو تقرأ من قبل نسبة ضئيلة من الناس لا يتجاوز الواحد في المائة؟ ما بال كتاباتي هل ستنال حظاً من القراء؟ وكيف سيكون الوضع؟.
وأحيانا تراودني القناعة بأن لابد للشخص أن يدون كل شيء وعن أي شيء عن حياته، وما يريد أن يورثه كالممتلكات والأصول لأبنائه ولورثته، ولا بد للورثة أن يعرفوا ولو شيئاً عن سلفهم، قد لا يمكنهم الزمن من العيش معهم بسب ظروف الحياة الحديثة التي شتت الأقارب بسبب ظروف العمل والسكن.
قد تكون السيرة الذاتية للسلف مهمة في لملمة الأسرة وتاريخها حتى لو كانت سيئة، هناك أبطال ومشاهير سيئو السيرة ولكنهم في التاريخ عظماء لم يظلم حقهم التاريخي، التاريخ لا يعرف الزين أو الشين أو الجيد أو السيئ، التاريخ من وجهة نظري كتاب مرجعي أو موسوعة"ويكيبيديا" لكل الباحثين لمن يودون الإطلاع عليه.
الشيء الآخر الذي يحفزني للكتابة هو ملاحظتي عن الأجانب خاصة الأوربيين لا يتركون مجالاً ولا يفوتون فرصة إلا وكتبوا عنها: (عن عملهم، عن حياتهم، عن تنقلاتهم وترحالهم)، وكثيراً ما نرى ذلك من المتقاعدين منهم، لا يضيعون الوقت من حياتهم، ولا تضيع حياتهم سدى، فإنهم يتركون بصمه للأجيال التي تليهم، ليس بالضرورة أن يكون من يكتب منهم مثقفاً أو أن يكون لغوياً أو صاحب شهادات عليا، أو من ذوي المستويات العليا من التعليم أو من أصحاب المناصب الإدارية الرفيعة بعكس العربي أو الشرقي عامة، هناك الملايين من الكتب الأجنبية التي تعج بها المكتبات من القصص والروايات، تشترى كشراء الخبز من قبل الأجانب يقرؤونها في أي مكان يجدون فيه الوقت: (في الطرقات، في الممرات، في وسائل النقل، وفي قاعات الانتظار)، ليست القراءة مقصورة على المثقفين منهم فقط، بل للكل، من يجد في نفسه رغبة القراءة هذا ما جعل دور النشر عندهم تطبع أحجاماً صغيرة من الكتب تناسب حجم الجيب فتصحب قرائها أينما كانوا، وبما يتناسب حملها تعرف بكتب الجيب (التي يمكن وضعها في جيب الملابس حجم 11×18سم) تسهيلاً للقراء.
- عبد الله السناوي - شارك
-