1.  

      حياتي الشخصية - الفقرة السابعة

      حياتي في دبي أهمية المراسلة
      في الحقيقة عندما كنت في دبي لم ينقطع اتصالي بأهلي في عمان، كنت أراسل أبي باستمرار، حيث سبق أن زودني عند السفر بأوراق بريدية ذاتية التغليف والطابع، ليسهل وضعها في أقرب صندوق بريد بعد الكتابة، لكن المراسلات كانت تتقطع بيننا بسبب ظروف التوصيل في دبي، كانت تصلني رسائله عبر صندوق بريد الجماعة، وفي مسقط يستلم أبي رسائلي بواسطة أصدقائه تجار إبراء في مطرح، ربما لكونه عسكرياً لا ينزل مطرح إلا عندما تسنح له الفرصة، وكان ـ رحمه الله عليه ـ لا يحب أن ينقل لي أي خبر ـ عن أهلي ـ يراه قد يزعجني ويزيد من شوقي إليهم، وأنا كذلك لا أطلعه على الحقيقة عن أي شيء يخص ظروفي المادية، وكانت مكاتباتي له تقتصر فقط على الدراسة والحياة في مدينة دبي بصفة عامة وعن احتضان دبي للاجئين من الدول التي بها حروب، حيث سبق أن زار هو دبي من قبل ويعرفها معرفة جيدة
       
      المكاتبات كانت وسيلة التواصل الوحيدة بين العمانيين وذويهم في الغربة، حتى أنهم عندما يعاتبون بعضهم يكتبون في رسائلهم العبارة التالية: (لا تحرمونا من المكاتبة أنها نصف المشاوفة)، تدربت على كتابة الرسائل منذ أن ختمت القرآن الكريم بمدرسة القرية ربما في سن السابعة تقريباً، وكان أبي يخصص لي جزءاً من وقته ليعلمني الخط.# فور انتهائي من مدرسة القرآن لست أدري لماذا كان أبي يصر على أن أتعلم الكتابة بسرعة، حتى أنه كان يضربني على أصابعي عندما أخطئ في الكتابة، ربما كان يؤمن بأنها الوسيلة الوحيدة في ذلك الوقت لتبقي التواصل معه، وفعلاً عندما تركني في ممباسا مع العائلة العمانية هناك لم تكن عندي مشكلة التواصل معه، خاصة كانت مكاتب البريد دقيقة في توصيل الرسائل، وصاحب البيت ـ الله يرحمه ـ كان يسعد عندما يفتح صندوق البريد ويجد به رسالة أتتني من أوغندا أو بوروندي.
       
      حب الكتب واقتنائها حتى لو لم أقرأها: أول قصة ربما قرأتها بما أذكر في المكتبة العامة التي أسلفت ذكرها في دبي، وكانت من ذاتي في أول يوم بصحبة أولاد الجماعة وهي قصة "الحمار والبطيخ" ثم عن "ألفأر والبطيخ" وعن "الثعلب والغنم" وأحسست بأنها هزلية، لا تناسب فكري، كنت أحتاج لشيء دسم يناسب عقلي، وعندما عدت في المرة الثانية، وقع نظري على المجلات الأسبوعية من الدول العربية، بما فيها المصرية التي تأتي من مصر، وبدأت أقرأ عن الأخبار السياسية وحركات الزعماء، وعندما بدأنا في المدرسة ندرس مادة الدين عن حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي مادة التاريخ عن تاريخ المسلمين، وما انضوت تحت هذه المطالعة من أفكار، نمت عندي القومية العربية، وبدأت اقرأ بالتدريج عن نهرو وتيتو وغيرهم من زعماء دول عدم الانحياز وما حققوه في بلدانهم، وكنت أتابع الأحداث بشكل مستمر، ربما كان هذا أحد الأسباب الذي جعلني أداوم على المطالعة في المكتبة، وعندما كان يخطب الرئيس عبد الناصر وتلتئم الناس على التلفاز في المقاهي لسماع خطابه كمشاهدة مباراة كرة القدم، كنت معهم وكنت أرى الحماس لدى الأخوة اليمنيين وغيرهم من بلدان الشام، ولكن ذلك الحماس كان لا يعلق في ذهني، كان بالنسبة لي مجرد وهم وحماس تلفاز، كمن يشاهد مباراة في المصارعة الحرة.# وفي الصف عندما يأخذ مدرسنا الغزاوي الحماس، ويفرط في تمجيد بطولات العرب وعن تاريخهم يجدني صامتاً ولا أردد كما يردده الأطفال الذين أمامي في الصف، وكان يركز بعينيه صوبي عند الشرح بوده معرفة ردود الفعل عندي الـ ، ولكني أتجنب أي مناقشة في الصف، لأن الأفكار بيننا متباينة بين ولد ناضج وأولاد لم تكن لهم خبرة في الحياة، لدرجة أن هذا المدرس كان يعتقد بأني كبير في السن ولكني قصير القامة، كنت لا أملك له الرد عدا الابتسامة
       
       
      في الحقيقة قبل سفري إلى دبي كنت أمارس القراءة بمطالعة أي شيء يقع على يدي ودون استثناء من دوريات أو مجلات وصحف، حتى لو كنت أجد صعوبة في فك الكلمات ولكني أحاول أو أتركها وأقرأ الجمل التي بعدها، حتى يكتمل لي تصور الموضوع، ولم تكن الصحف والمجلات متوفرة بشكل معقول في عمان، كانت شحيحة، ولست أدري كيف تأتى.# هذا، وبما أن تعليمي في مطرح وبيت الفلج كان باللغة الانجليزية، كان لا بد من الممارسة حتى يرسخ ما تعلمته، لذا كنت اطلب من الشباب ندل مطعم ضباط الأوروبيين أن يحضروا لي معهم المجلات القديمة المستهلكة التي ترمى في المعسكر حتى أتمرن على القراءة خارج المنهج، وكان ما يشدني في هذه المجلات ألوان أغلفتها والصور التي بها عن الرياضيين وقوارب السباق والإبحار الشراعي وأطباق المأكولات والسيارات والمناظر الطبيعية وغيرها.كنت أقرأ أعمدتها بتأني، ويستغرق مني ذلك وقتاً و جهدا ًحتى أفهم مضمونها.... ماذا أعمل؟ أنها "الحاجة أم الاختراع".# و المكتبة لم تكن لي المتنفس الوحيد الذي ينسيني وحدتي والبعد عن الأهل بل كنت أجد نفسي في جو راقٍ كطالب علم، فقد كنت أقضي في المكتبة وقتاً طويلاً حتى ولو لم أقرأ شيئاً، يكفيني أن أجلس وأتأمل فيها حيث كان بها صرح واسع ومصلى، وعندما يخرج أمين المكتبة لتناول الشاي يأتي لي بكوب معه، لقد أعتاد عليَّ، وكنت أصلي معه المغرب عندما يؤم بالصلاة، حتى أصبحنا نألف بعض، ولم أجرؤ أن أسأله عن جنسيته إلا أنه يبدو لي ربما من ملامح وجه بأنه يمني، لأن أطباعه لا تختلف كثيراً عن طباع العمانيين
       
       
      كنت في دبي أشبه ما أكون بقطرة ماء حلو في بحر ذلك العدد الضخم من المهاجرين أو اللاجئين إليها من مختلف الجنسيات خاصة من الشام أثر الحروب في الستينات "وقت الاحتلال الإسرائيلي"والانقلابات في الدول العربية، وظهور التيارات السياسية والفكرية المختلفة في البلدان العربية (كالاشتراكية والبعثية والقومية والناصرية إلخ...)، جاءوا أيضاً بسبب الحروب التي كانت تعم معظم الدول العربية كنتيجةلاستياء شعوبها من حكامها وهجرتهم لطلب الرزق في دول الخليج التي كانت ناهضة آنذاك أثر ظهور النفط في الستينات ونهاية الخمسينات. لكن سرعان ما تلاشت هذه التجمعات العربية وحلت محلها الجاليات الأسيوية وانقلب كل شيء رأساً على عقب
       
       
      الاحتياط واجب: ولم تكن حياتي في دبي تخلو من خطر، كنت دائماً حذراً في كل خطوة أخطوها، وعندما كان زميلي في السكن يتدرب على رفع الأثقال باستخدام علب حليب النيدو الفارغة وملئها بالرمل كأوزان كنت أنا أيضاً أتمرن عليها في بعض الأحيان في غيابه،باستخدام العلب الأصغر حجماً، ولدي مهارة في الدفاع عن النفس باستخدام السكين للقتال عند الضرورة، تعلمتها من الجنود بمعسكر بيت الفلج للتصرف عند الخطر، وكنت أعرف كيف استغفل الخصم واستغلال الأماكن الحساسة لطعنه مهما تكن ضخامة جسمه معتمد في ذلك على قراءة تعابير الوجه، كان هذا الاحتراز ضروري ليانع غريب مثلي، وعندما توفرت عندي المادة في دبي، اشتريت واحدة من هذه السكاكين العسكرية بغمدتها من الباعة البتان بسوق ديرة، وكنت أحملها باستمرار في الحزام تحت "الكندورة" عندما اذهب إلى المكتبة، فإن الاحتراز واجب من وحوش البشر، و أعتدت على حملها كلبس الخنجر عند هبوط السوق عندنا في إبراء، أنها تشعرني بالأمان
       
       
      عندما أمشي في الشارع لا ألتفت شمالاً ولا يميناً، أمشي بخط معتدل كالقطار، فاتح حواسي لمن يمشي خلفي أوبجانبي، وإذا استوقفني شخص ليسألني عن شيء فإني أتظاهر له بالبكم والصم وأبدأ مخاطبته بلغة الإشارة إلى أن يمل وينصرف
       
       
      شوارع دبي في تلك الفترة كانت خطرة خاصة التي بها الفنادق التي تبيع السكر، ترى متسكعي الشوارع فيها كثر خاصة بعد المغرب، من فاقدي الأمل، والعاطلين عن العمل، الذين يتخذون من الخمور ملاذاً لنسيان همومهم، في جميع الأوقات نادراً ما يرى أطفال دون ذويهم، وعندما أرى بأن الظلام سيدركني لا أصلي المغرب في مصلى المكتبة اخرج قبل المغرب، وأحاول تجنب منطقة ميدان بني يأس الذي يكتظ فيه الكثير من المسيئين الأفارقة، ومدمني الخمور من سكان بعض دول الخليج
       
       
      دائماً أتجنب المواجهة عند الخطر وأحاول استخدام الحيل؛ لأني غريب لا أفهم عن أنظمة وقوانين البلد التي أنا فيها، وأود أن أعود بسمعة طيبة لأهلي، إلا "إذا كان شراً لابد منه"، ولا لي حول ولا قوة فيه، مستعيناً بالله العلي االعظيم# الله سبحانه تعالى منحني قدرة فهم تعابير الوجه، وعندما يكلمني شخص استطيع أن أخمن عن ما بداخله من خلال تجاعيد وجهه وأقرأ الخلاصة بما يود الوصول إليه قبل أن يكمل كلامه، وهذه الموهبة تعلمتها في ممباسا عندما كان يتركني أبي أنتظره عند أحد بائعي الحلوى العمانيين، كنت أراقب سلوك الناس، لأني كنت أحس بالخوف، خاصة من المعضلين من الأفارقة من ذوي البشرة السوداء، ومن المتسولين، وعندما يستوقفني شخص في شوارع دبي، يبدأ كمبيوتري البيولوجي فوراً باستخلاص البيانات عن مقصد الشخص، وقد ساعدتني هذه الموهبة في اجتياز كثير من الصعاب لا حقاً، # دبي كانت بالنسبة لي ذكرى جميلة وعندما أذهب إلى هناك تتهيأ لي أسماء المناطق التي كنت أسمعها من سائقي سيارات الأجرة لجمع الركاب:(سطوة، جميرة، هور العنز، ديرة، بر دبي ....)،هكذا أراها كشريط فيديو يمر أمامي بسرعة كأنها البارحة، لقد حفظت كل شيء في دبي، في خلال سنة دراسية واحدة، و أخيرا عادت بي تلك السفينة الخشبية تمخر عباب البحر في يومين حتى أن رست أمام فرضة مطرح، نفس المقر الذي به محل الصرافة الآن،تحت قلعة مطرح
       
       
      المرحلة التالية من حياتي
       وما أن اكتملت إجراءات الدخول إلى مسقط حتى هرعت إلى دكان أصدقاء أبي التجار، استفسر عن موعد خروج شاحنتهم إلى إبراء وفي اليوم التالي كنت عند أهلي، تستقبلني أمي بالأحضان، وأنا عيني تحدق على أختي الواقفة خلف أمي منتظرة دورها في العناق، تخرج منها تلك الابتسامة الحزينة على صحتها وضعف حالها. ولم يمض من إجازة الصيف إلا أيام قليلة حتى فارقت الحياة على فراش المرض، ممددة في ذلك الدهريز بالبيت الشرقي، بعد صراع مرير مع المرض، يقعدها أحيانا ويتركها في أحيانا أخرى تاركة طفلتها الرضيعة يتيمة في حضن جدتها المسكينة التي لا حول لها ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، افتقدتها أنا كصديقة قبل أن تكون أختاً، وافتقدتها أمي أيضاً كصديقة ورفيقة قبل أن تكون ابنة...فهي المسكينة التي شقت في زواجها غير السعيد، أودعت تربية تلك الرضيعة أمانة في حضانة جديها في برداً وسلاماً
       
      عندما أيقظني أبي من النوم لصلاة الفجر من منامي في الفناء من أمام الدهريز الشرقي الذي به أختي ممددة على الفراش، وقد كان أبي ملثماً، نظرت إلى عينيه رأيتها تلمع، والتفت فوراً إلى الدهريز، لاحظت لا وجود لأحد عند أختي، والبيت يخيم عليه السكون، أيقنت بأن هناك شيء ما قد حدث، تبعت أبي بهدوء إلى أن وصلنا المسجد، وبعد تأدية الصلاة، سمعته يقول للإمام بنبرات حزينة: (تفويت عندنا الابنة)، هنا فهمت سر ذلك الصمت الذي خيم على البيت، وأدركت بأن أختي قد رحلت عنا، فانتشر الجميع ليستعدوا لمراسم الجنازة.هكذا آمنا بالله وقدره (وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) سورة البقرة ١٥٤ ـ ١٥٥. (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) سورة المؤمنون ١١٨
       
      حزن أبي كثيراً على رحيل أختي، ورأى ضرورة وجود أسرته بجانبه بعد رحيل ابنته الكبرى، وكان أول ما عمله، أي أول شيء عمله هو ترتيب دراستنا أنا وأخي لنلتحق بالسكن الداخلي و نكمل تعليمنا بإمارة أبو ظبي بعد أن فتح سمو حاكمها الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله واسكنه فسيح جناته باب مدارس بلاده على مصراعيه لاستقبال أبناء أخيه السلطان قابوس لينهلوا من معارف العلم
       
      عمل أبي المستحيل بعد ذلك مع رؤسائه أن ينقلوا خدماته إلى معسكر بيت الفلج حتى يتسنى له نقل أسرته معه في مطرح، وعندما عدنا أنا أخي لعطلة الصيف وجدنا العائلة قد استقرت بدارسيت في بيت مستأجر من العريش، وهكذا انطوت صفحة من حقبة الستينات في حياتي، و ها أنا في أبو ظبي للحقبة التالية

      1. عبد الله السناوي - شارك