-
-
ذكريات 33-3 د
رحلة العمل -11
مقر العمل
خدمات المدونات -3
هكذا نرى بعد انتقالنا إلى المبنى الجديد برويـ في أواخر السبعينات ـ ازدهرت خدمة التلغراف والتلكس إلى أن بلغت ذروتها في منتصف التسعينات، قبل أن تأتي ابنة عمها خدمة تراسل المعطيات لتنافسها وذلك بفضل توفر شبكة الهاتف الجيدة التي اعتمدت عليها هذه الخدمات بشكل أساسي.
وعندما أدخلت الأنظمة الآلية في التعاملات المصرفية وانتشار أنظمة الصرف الآلي واستخدام شركات الطيران الكمبيوتر في الحجز وبيع التذاكر، زادت الحاجة إلى استئجار دوائر المعطيات كما أشرت في مقالاتي السابقة وبدأت من هنا خدمة التلغراف في الانحدار التدريجي، إلى أن اضمحلت تماما، خاصة بعد انتشار خدمات الهاتف الثابت التي بنيت عليها الخدمات المضافة باستخدام الهاتف في الاتصال كالفاكس مثلاً، وتطوره من الجيل الثاني إلى الجيل الثالث لتصل سرعته إلى 9600 ن/ث، واستخدام الكمبيوتر لنظام اتصال الهاتف وفق المعايير الدولية حسب التوصيات الـV21 وما فوق.
هذا التطور بإدخال المقاسم الرقمية والوسائط الرقمية التي تربط المقاسم ببعضها، والتغيير إلى الكابلات البصرية سهل كل شيء، وقلل من تكاليف التشغيل والصيانة، لدرجة أنه قلل من تدخل مهندسي الإلكترونيات والاتصالات إلى حد أنه صار يكفى للقيام بهذا العمل ممن لديه شهادة في تقنية المعلومات وذلك بسبب دخول الكيان المرن في تشغيل هذه التقنيات.
أحياناً أجد نفسي أنجر إلى الدخول في تفاصيل فنية عديدة، هذا لأني أحن إلى الماضي، وأحس نفسي في بعض الأحيان مندفعاً إلى هذه التفاصيل، ذلك لأنها مازالت تجري في عروقي حيث كنت بارعاً في هذا المجال بسبب شدة عشقي للتكنولوجيا، وقد كان اسمي لامعاً في ذلك الوقت بين مدراء البنوك ووكلاء شركات الطيران بما كنت أقدمه لهم من نصائح واستشارات فنية مجانية باعتبارهم زبائن للشركة، قبل أن يعتمدوا على ذاتهم وقبل توفر الاختصاصيين لديهم من مخرجات التعليم الحديث.
قصة عن الثقة بالنفس:
أود أن روي قصة شاب عماني من خريجي مركز التدريب بالشركة عندنا في الثمانينيات،فقد التحق ذلك الشاب عندنا بالقسم بدرجة مساعد فني، عمل تحت إمرتي عندما كنت رئيساً لقسم التلغراف وتراسل المعطيات.
بعد التعديل في الهيكل التنظيمي للشركة عام 1990متمت ترقيتي إلى منصب رئيس القسم وبقيت وظيفتي السابقة شاغرة"مهندس القسم" وكان لا أحد بعدي من العمانيين من لديه كفاءة لشغل تلك الوظيفة في ذلك الوقت،إلا أجنبياً من الجنسية الهندية تعين قبل ترقيتي بوظيفة مساعد مهندس.
في الحقيقة هذا الفني الأجنبي لديه ميزة جيدة قلما تجدها عند غيره، وهي ميزة التعلم وتثقيف الذات والتحدي، وكان سبب التحاقه عندنا هو أنه كان يعمل في نفس المجال بدولة البحرين آنذاك، فقد كانت البحرين متقدمة عنا في مجال الاتصالات في تلك الفترة، وأيضاً فقد كانت الشركة الأجنبية تدير الاتصالات هناك نفسها التي كانت تدير قطاع الاتصالات عندنا في عمان (سي دبليو) قبل التعمين.
وفي مدة قصيرة استطاع هذا الأجنبي أن يصنع لنفسه اسماً، وكان مدراء شركات الطيران والبنوك بأفرعها المختلفة عندما يحتاجون إلى شيء من شركة الاتصال لا يعرفون أحداً سوى هذا الشخص الذي فرض عليهم شخصيته، حتى وصل به الأمر أن يتصرف أحياناً كأنه رئيس للقسم دون أن يرجع إليّ للاستشارة وإبداء الرأي. بدأت أدرك خطره على الشركة، وكان أمره يقلقني دائماً.
كان لابد من معالجة الأمر بحكمة، والسبب هو أن مديري أقسام الكمبيوتر أو مشرفي خدمات الاتصال في تلك المؤسسات هم من الأجانب، ولا يثقون بالكفاءات المحلية، كما أنهم كانوا يفضلون التعامل مع بني جنسهم دون غيرهم، وزميلنا هذا كان يشيع أمام هؤلاء المديرين بأنه لا توجد كفاءات في هذا المجال إلا غيره لذا كانت الحاجة إلى مجيئه من البحرين ليعين العمانيين، وأيضاً كان المدير المالي الأوروبي عندنا في الشركة هو من أنصار هؤلاء الأجانب بتلك المؤسسات، يستمع إليهم خاصة عندما تكون هناك مبررات عن دفع مبالغ الفواتير تعزى أسبابها لتقطع الخدمة.
كان عدد العمانيين في القسم الذي أترأسه حوالي النصف تقريباً، ربعهم يعملون في وظيفة "فني مراقبة" أي بدوام الورديات،وعادة ما تكون خبرتهم الميدانية أقل من "فني الصيانة" ولا يوجد في أعمال الصيانة من العمانيين إلا عماني واحد وهو الذي سبق ذكره، وعندما رأيت أن الوضع غير مريح بدأت بالتشديد على الفنيين العمانيين بإعطائهم أصعب الأعمال والوقوف خلفهم حتى يتعلموا، وكان هذا الوضع غير مريح لدى الكثير منهم، لأن فكرة التعليم وتطوير الذات في السابق لم تكن موجودة عندهم. فالكل مطمئن"طالما الراتب يمشي" والفكر السائد عند الأجانب في ذلك الوقت بأنه من لا يتحدث أو يتقن اللغة الانجليزية فهو غير متعلم، حتى لو كان عنده شهادة الدكتوراة، أو بمعنى آخر ليس لديه تعليم بمعايير متعارف عليها
فبعد فترة من تكثيف العمل على هذا الشاب العماني وتعليمه مع بذل قليل من الجهد استطاع أن يفهم جزءاً كبيراً من عمل هذا الفني الأجنبي ولكن تنقصه الجرأة، وعيبه عدم الاطلاع حاله كغيره من العمانيين يفضلون أن يسألوا عندما يصعب عليهم شيء بدلاً من البحث عنه في الكتب حتى لو كان كتاب الدليل أمامهم، وذلك من أكبر المشاكل التي كنت أواجهها في عملي مع هؤلاء الشباب عند تدريبهم.
ذات يوم وفي منتصف الثمانينات من القرن الماضي، قرر أحد البنوك التجارية الكبيرة في مسقط أن يحول نظام التعاملات المصرفية داخل البنك من النظام اليدوي إلى النظام الآلي، واستخدام الكمبيوتر في التعامل مع الزبائن كما هو الوضع الآن.
وبسبب ثقة المدير الفني في البنك المذكور بالفني الأجنبي عندنا، ناقش معه كل تفاصيل التوصيلات الفنية، وقررا كلاهما أن يتم التحويل يوم الجمعة، وأخبرت أنا للعلم، ومن أجل السماح لهذا الفني القيام بالعمل في غير الدوام الرسمي للحصول على الأجر الإضافيالـ overtime
وعندما أكد لي المدير الفني بالبنك بأن الأمور ستجري على ما يرام، وافقت، بالرغم أنذلك لم يتم بيننا كتابياً، ومن جهتي اعتبرت هذا العمل شأناً داخلياً خاصاً بالبنك، ومسؤولية دفع الأجر الإضافي ليوم واحد ليست بمشكلة، وهي بسيطة، تقع ضمن صلاحيات عملي واعتبرت العمل الذي سيجري تنفيذه كأنه نوع من إصلاح الأعطال الطارئة بموجب محادثة مدير البنك.
ولكن بفهمي العميق عن حجم العمل الذي كان هناك فإن كثيراً من الأشياء تقع ضمن اختصاصات شركة الاتصال، إلا أنني قلت في نفسي لعل الأخ الأجنبي هذا ملم بكل شيء، ولم أشاء مناقشته طالما لا يريدني أن أعرف،فلنترك الأمور تمشي وعملت كقول إخواننا الانجليز: let's keep fingers crossed يعني على الأمل.
على كل حال،لم تكن من عادتي قبول إجراء أي عمل كهذا دون أن أعرف أدق تفاصيله حتى لو كان مستعجلاً، ومن طبيعتي التدخل في كل شيء إلا في ذلك اليوم فقد كنت مسترخياً كمن يود الفشل لهذا الشخص "المدعي المعرفة"حتى أكسر شوكته، ومن سوء تصرفه لم يتخذ إجراءات احتياطية حتى مع الفني المناوب عندنا، لم يخبره بما سيقوم به من عمل يوم الجمعة حسب نظام العمل،وأعتقد بأن المسألة مسألة سحب بعض كابلات التوصيل من كابنة إلى كابنة ووضعها في الجهاز الآخر، وأن العمل لا يأخذ منه أكثر من ساعة، أو ربما ساعتين مع الفحص كحد أقصى.
وقبل نهاية دوام يوم الخميس أي قبل التحويل بيوم طلبت من الفني العماني أن يبقى في منزله طول اليوم، أو أن يتواجد في مكان به هاتف وألا يتحرك من مكان إلى مكان دون علمي، وأن يأخذ سيارة الشركة معه؛لوجود جهاز اتصال راديو بها، كما طلبت منه أيضاً أن يبقى مستعداً؛ لأن زميله الأجنبي عنده عمل تحويل في أحد البنوك وقد يحتاج إلى مساعدته.
لم يتشجع الفني العماني لأنه لا يطيقه، ولا يحبذ العمل مع هذا الأجنبي بسبب حدة طبعه، وهما الاثنان لا يطيقا بعض كالقط والفار، إلا إني أقنعت العماني وقلت له هذا أمر مني وعليه الامتثال له.
كان الفنيو المدير المسئول عن الكمبيوتر بالبنك من الطائفة الباكستانية، وأنا أعرف مدى الخلاف بين الطائفة الهندية الباكستانية، وفي الصباح عندما ذهب زميلنا الفني الهندي هذا، وجد بعض الكابلات التي تخص جانب الكمبيوتر قد سحبت، فارتبك، والسبب هو عندما رأى فني كمبيوتر البنك بأن أخانا هذا قد تأخر عن موعد وصوله البنك بدأ بالعمل بما يخصه دون انتظار، لعله يلحق صلاة الجمعة.
تصرف فني كمبيوتر البنك أثار غضب هذا الأجنبي وبدأت"اللخبطة" في التوصيلات وبدأ صاحبنا دون أن يدري (يأتي بهذا..ويفصل هذا..ويركب هذا..ويقطع ذاك.. يلحم ويزيل مقابس التوصيل.. إلى ما لا نهاية..) واستمر هذا الحال هكذا... حتى حان أذان صلاة الجمعة، تركه فني الكمبيوتر وذهب للصلاة.
هذا التصرف من فني الكمبيوتر أثار غضب صاحبنا، رمى بالعمل وخرج هو أيضاً، وعندما عاد فني البنك من الصلاة وجد كل شيء ملقى على الأرض "مقلوباً رأساً على عقب" ولا وجود لهذا الرجل، فاتصل بي ليخبرني بالقصة و يحذرني بأنه إذا لم يتم استكمال التحويلات قبل الساعة السابعة من صباح يوم السبت سيضطر البنك وأفرعه إلى غلق أبوابها أمام استقبال الزبائن إلى أن ينتهي العمل وشركة الاتصال ستتحمل تكاليف هذا التعطيل.
وبعد قليل من اتصال فني البنك أتصل بي صاحبنا ليلوم ما فعله الباكستاني وعندما سألته ما الحل إذن؟ لم يعطني الرد،فكأنه عاجز ويطلب مني أن أذهب وأقوم أنا بالعمل بديلاً عنه، فرأيت هنا "كيف تكمن الخبرة"، فاتصلت بالفني العماني وطلبت منه أن يذهب إلى البنك ليقوم بالعمل بدلاً منه وسأكون معه، وتعهدت بألا يكون وجود لهذا الأجنبي عندنا بعد ذلك اليوم، لقد جنى على نفسه.
وبقليل من الذكاء والصبر واجتهاد من الفني العماني أنجزنا العمل خلال ساعتين عبر التلفون بيني وبين هذا الفني العماني المتواجد بالبنك واستطعنا بحمد الله أن نتم التحويلات كما كان مخططاً لها في ميعادها.
وفي صباح يوم السبت علم هذا الأجنبي بأن الفني العماني الذي كان يستخف بقدراته أكمل العمل فشعر صاحبنا بالخزي من أمره، وجاء كمن يبحث عن مبرر لموقفه فلم أمكنه من وضع قدمه داخل المكتب،بل طلبت منه فوراً أن يكتب استقالته أو أن أحيله إلى اللجنة التأديبية بشهادة مدير البنك فقدم استقالته ورماها على طاولة مكتبي وخرج وكانت هذه هي نهاية عمله عندنا.
أما الفني العماني فقد أوصيت له بترقية درجتين كترقية استثنائية، وعندما نوقشت ترقيته في اجتماع مجلس الإدارة رفضها الرئيس وحاول المدير العام إقناعه وأن يبرر سبب الترقية إلا أنه لم يستطع فأتصل بي المدير العام ليطلعني على الأمرمن قاعة الاجتماعات فقلت له إني قادم لمقابلة الرئيس ومعي استقالتي أما أن يرقى هذا الشخص أو استقيل أنا.اطلع المدير العام الرئيس بالأمر، فوقع الرئيس بالموافقة، نظراً للسمعة الطيبة التي كنت أتمتع بها لدى إدارة الشركة ومعرفة الرئيس عن أسلوب إدارتي في العمل.
- عبد الله السناوي - شارك
-