1. ذكريات –21 د

      من ممرات الحياة -2

      اللغة لا تعيق تدفق المعرفة

      يقول سبحانه تعالى في كتابه، سورة الحج ( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً ) صد الله العظيم،

      هكذا الحياة مراحل، ولكل مرحلة حقبة من الزمن يمر فيها الإنسان بين التلال والسهول والجبال، كادح ومكافح يصارع فيها الأهوال، وعندما يصل إلى أرذل العمر يكون سجل كتابه قد امتلئ بتاريخه ثم تنطوي حياته، ويندفن سجله معه إذا لم يترك ما مر به وتعلمه لغيره،هناك حديث شريف نقله أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام بأنه:(إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولدٍ صالح يدعو له).

       

      والإنسان لا ييأس و لا يقنط من رحمة الله طالما رزقه الله الصحة ونعمة العطاء، فليجتهد بالجهد أو بالفكر، ونحن الآباء عندما نبلغ مرحلة التقاعد عن العمل يجب ألا نتوقف عن العطاء علينا أن نواصل ونوظف ما استطعنا من علم وخبرة لأبنائنا حتى نجنبهم الوقوع في الخطأ، علينا التفكير وعليهم التدبير، وما على المرسلين إلا البلاغ.

       

      فمن يتردد متخوفاً من حكاية اللغة بأنه لا يستطيع التعبير، أو إتقان قواعدها، أرى ومن وجهة نظري ذلك غير صحيح، اللغة لم تكن في أي حال من الأحوال حاجزاً أو عائقاً في تدفق المعرفة، الإنسان يستطيع أن يعبر عما في مكنونه حتى ولو بلغة الإشارة، هكذا استطعنا أن نفك أعقد طلاسم الرموز والرسومات المختلفة التي نقشت على جدران الكهوف والأواني عبر آلاف السنين، وقرأنا فحواها لنعرف عن تلك الحضارات كأنها كتبت بلغة عصرنا.

       

      إذن على الإنسان أن يكتب ويدون ما يشاء عن كل مراحل حياته وتجاربه لعلها تفيد الآخرين، وبأي لغة أو لهجة وهذا لا يمنع، كما أننا يجب أن لا نتقوقع في إطار معين، وكأننا نشترط على من يكتب أن يتعلم قواعد اللغة، ونشل أفكار الناس، ونخلق فروق وطبقات ثقافية واجتماعية. إن زمن البيروقراطية قد ولى،لم تعد تنفع أو تصلح في وقتنا الحاضر شئنا أم أبينا، فالتداخل بين الشعوب والثقافات موجود، وهذا أمر مسلم به.

       

      فلنترك الميدان أو الساحة مفتوحة دون تزمت؛ لإبراز المواهب المختلفة سواء كانت لغوية أم أدبية أم شعرية أم فنية، أو غيرها من المعارف،الكل عليه أن يعبر، والكتابة ليست حكراً على أحد، الشعر والقصص والروايات نقرؤها كل يوم وقد كتبت بالعامية، وبرامج إذاعية نسمعها تذاع بالعامية، لماذا إذن يحجب الفكر، وكثير من المدونات والتقارير لكتاب كبار تقرأ لهم بالعامية في إذاعات عالمية وإذاعات عربية، وبعض هذه الدول من أكبر الدول في الوطن العربي التي تنتج الكتب العربية.

       

      بل هناك شعوب في الوطن العربي كالمغرب على سبيل المثال، بدأت تناقش المعنيين بالتعليم العام في بلدانها عن إمكانية إدخال العامية في المنهج الدراسي في الصفوف الأولى لأبنائها تمهيداً قبل الفصحى، لم يعد هناك مجال للتعصب، علينا أن نتقبل الأمر الواقع،وباللين والتعقل،والمثل يقول "إن أردت أن تطاع فأطلب المستطاع" ليس هذا العصر كالعصر الذي كنا فيه حينما كان التعليم بالضرب والزجر.

       

      أنا أرى فكرة وجود المنتديات الالكترونية جيدة جداً، للتعبير، وتتيح المجال بشكل أريح وأوسع للتعبير، ليس هناك ضرر طالما الكل ملتزم بالقواعد العامة في طرح الأفكار، ولهذه قراؤها كما للصحف الورقية قراء.لهذه مجال و للصحف مجال آخر، والهدف واحد.

       

      يجب ألا نقف مكتوفي الأيدي عن المعرفة بسبب عاملا للغة، الغرب ما وصل إلى ما وصلوا إليه لو كانت اللغة هي العامل المعيق، كثير منا قرأ روايات لأشخاص سافروا وتنقلوا بين مناطق في العالم فقط من أجل إيجاد مواضيع للكتابة عنها، ووظفوا فكرهم وسخروا تقنيات العصر من أجل نشرها لخدمة مجتمعاتهم، ما بالك ونحن نملك كنوزاً من التراث والثقافة والتقاليد فنتردد في إخراجها فقط لأننا ننتظر من المثقفين والأدباء الكتابة عنها، وفي ذلك لا خوف سيأتي فيما بعد، الأول أن ننفض الغبار عنها.

       

      هناك آلاف الكتب سمعنا عنها في الغرب ألفت بواسطة الهاتف المحمول وأرسلت مواضيعها إلى مطابع دور النشر، دون أن يقابل مؤلفوها دار نشر واحدة، لذا نرى دور النشر عندهم تنتج الكتب كإنتاج الخبز عندنا في الوطن العربي.

       

      لقد رافقت عدداً كبيراً من الأصدقاء الأجانب في السبعينات حتى مطلع التسعينات وكنت أخرج معهم في رحلات إلى مناطق نائية في وديان وسهول داخل عمان، وعندما نعود يفاجئني بعضهم بكتابة عشرات الصفحات عن تلك الرحلة مع الصور.

       

      لهؤلاء الناس اهتمام كبير في الكتابة ويدربون أبناءهم منذ الصغر على ممارستها، ويزرعون فيهم الثقة، هناك مثال على ذلك: في يوم من ألأيام من عام 78م، أو في الفترة ما بين أواخر السبعينات وبداية الثمانينات عندما كنت على مكتبي، جاءني زميلي مهندس أوروبي يدعى "بول ميلر"، متلهفاً، يبحث عن العامل عندنا "العم سعيد" وسألني عنه، وفجأة دخل علينا "العم سعيد" كأنه سمعه من الممر،وطلب مني "ميلر" أن أشرح للشايب سعيد بأن يأخذ رسالته إلى البريد ويرسلها مسجلة إلى أوروبا ثم يحضر معه إيصال تأكيد الاستلام، لكن"العم سعيد" فطن وفهم المطلوب قبل الشرح.

       

      وعندما عاد العم سعيد من البريد بالإيصال، شكره "ميلر"بحرارة وسألته عن السر، فقال هذه رسالة من ابن زوجتي كتبها للملكة يدعوها لتناول الشاي في بيتنا عند زيارتها عمان، (الشاي متعارف عندهم بأنه الوجبة الخفيفة التي تسبق العشاء).واعتقدته يمزح كعادته، ولم أعره اهتمامي وواصلت عملي، ولم تمض إلا بضعة أسابيع حتى جاء لأبن زوجته الرد من مكتب القصر في بلدهم بأن جلالتها تشكره، وتعتذر بسبب جدول زيارتها المضغوط، وبالمقابل تدعوه وعائلته لحضور حفل الشاي الذي ستقيمه بمناسبة زيارتها في السفارة بمسقط، وهذا الابن طفل مازال في مراحله الأولى من التعليم.

       

      والشيء بالشيء يذكر عندما انتهى عقد "ميلر" أراد أن يكرم العم سعيد على خدماته له، فقرر أن يهديه كوبه "الماك" Mug الذي أعتاد شرب الشاي فيه، وناداه أمامي، فقال للشايب سعيد:(هذا كوبي الذي خدمتني به لمدة عشر سنوات فتقبله مني هدية لك أن تفخر بأنك خدمتي، فإنك تستحقه)، وكان ذلك الأسلوب بالنسبة لي أسلوباً استعمارياً، (سيد وعبد) أما بالنسبة للشايب سعيد كان كشيء عابر، لا يفهمهلا يدري لماذا يعطيه كوبه المستهلك لمدة عشر سنوات، فتسلمه منه ببراءة دون أن ينطق بكلمة فاعتقد "ميلر" بأن العم سعيد لم يجد عبارة الشكر والامتنان، و بأنه سيفخر كالعمال الأسيويين أو الأفارقة البسطاء الذين استعمروهم.

      أخذ العم سعيد منه الكوب وذهب به إلى المطبخ. وبعد أقل من أسبوع من رحيل"ميلر"ذهبت إلى المطبخ لأعد الشاي لنفسي فوجدت الكوب مشطوف الأذن ويستخدم لحفظ سائل الصابون وإسفنجة الغسيل.

       

      التدوين إحدى الوسائل التي ترفه عن النفس عند الغرب، وأذكر عندما كنت أعمل في الاتصالات، كنا نخرج كثيراً في تلك الفترة أنا وزملائي من العمانيين مع أصدقائنا الأوروبيين في رحلات ترفيهية أيام العطلات إلى الأودية في المناطق المختلفة،وعندما نصل المناخ نبدأ ننشغل نحن في أمور أعتقد بأنها تافهة كالغناء والرقص والتصفيق، وكنا نسخر من هؤلاء الغرباء عندما نراهم ينشغلون في جمع الحصي، وتفحص النباتات وتصوير الزنابير وضفادع المياه. وعندما نعود في اليوم التالي نرى ما كتبوه عن تلك الرحلة بأدق تفاصيلها وفي عشرات الصفحات. يحدث ذلك بالرغم من أننا لم نكن اقل منهم في المستوى الدراسي، بل كان بعضنا في مراحل تعليمية أعلى منهم.

       

      1. عبد الله السناوي - شارك