-
-
ذكريات -22 (د)
من ممرات الحياة -3:-
اللغة لا تعيق تدفق المعرفة
هناك قصة أراها من المناسب أن أرويها، دخلت مرة على مديرنا الأوروبي في العمل، ووجدت عنده صديقه ضابطاً في الجيش من بني جنسه، يتبادلون رؤية صور فوتوغرافية التقطوها عن البيئة العمانية.
وقد أعطوني بعضها لأطلع عليها وكانت من بينها صور لنساء التقطت على حين غفلة منهن، ونساء يغسلن أواني في شريعة فلج، وصور أخرى عن طيور دجاج تنقر بقايا الطعام من الصواني، وقطط وأطفال يلعبون في صناديق قمامة، وعجوز يقضي الحاجة على ساحل بحر، وصور لحمير ينقل عليها أغراض.
لم أتمالك نفسي أحسست بالدوار وبالدم يفور في رأسي وكأنه سينفجر، وما كان مني إلا أن أعدت الصور بهدوء على طاولة المكتب وقلت بالانجليزية: (ألم تجدوا غير هذا لكي تصوروه؟)، وكان الرد (نعم هذا مختلف، لا يوجد في بلادنا)، فاستأذنتهم وخرجت بكل هدوء.
وعندما عدت إلى القسم لم استطع التركيز، والقيام بمهام عملي، بالرغم أنه كان لدي فحص وضبط خطوط أجهزة إرسال مهم مخطط له مسبقاً مع دول كبيرة، لكن كان الحزن يتملكني قبل الغضب، فطلبت من زميلي الأسيوي أن يحل محلي، بحجة الصداع الشديد (صداع نصفي يراودني بين وقت وآخر)، وقلت له ربما سأذهب إلى البحر وهو يعلم بأن لدي هذا العارض "الشقيقة"، سجلت أمر تسليم العمل في دفتر المحطة وخرجت، وبدلاً من أن أذهب إلى البيت اتجهت إلى النادي البحري، سحبت قاربي ونزلت البحر، ولم أعود إلى البر إلا عند الغروب.
وفي اليوم التالي بينما كنت منكباً في إصلاح بعض الأجهزة دخل علي المدير نفسه، وسألني إن كنت بخير وكيف كانت رحلتي إلى البحر، فقلت له أنا بخير والرحلة حففت كثير من الهموم، ثم طلب مني أن أقابله إذا أمكن بعد الغداء أي بعد صلاة الظهر.
عندما حضرت مكتبه، طلب من المنسقة الأسيوية أن تحضر لي شيئاًأشربه، فاعتذرت فأنا لا اشرب شيئاً قبل الغداء، ودار نقاش دبلوماسي مطول و هادئ بيني وبينه، وفي النهاية عندما رأى بأني غير مقتنع، قال: (على كل حال لا تقلق نحن سنرحل قريبا don’t worry my son I understand your point, we will be leaving you soon ) فأدركت بأن عقد عمله سينتهي بنهاية العام، فسألته للتأكيد: (هل هذا صحيح؟ بل مازلنا نحتاج إلى خبراتكم)، فقال بالانجليزية أعتقد بأنكم قادرون على الاعتماد على أنفسكمI think you will be able now to stand on your own feet هكذا تعلمنا منهم كيف معالجة الأمور.
وبعد خمس سنوات من تلك المقابلة سافرت أنا وزميلي لحضور دورة في أوروبا عن تشغيل وصيانة أجهزة تراسل المعطيات data communication equipment (DTE) خدمة كانت توفرها شركة الاتصالات لقطاع البنوك والشركات، في ذلك الوقت وكانت مفاجئة لنا عندما وجدنا المدير ذاته الذي كان يرأسنا في عمان، هو من سيقوم بتدريسنا و رأيناه كيف كان يحمل وينزل الكراتين من سيارته، ويرزح وينقل الأجهزة بنفسه، حتى أن زميلي استحى لما يجري وهم لمساعدته، لكنه رفض و قال لزميلي ما معناه لا يوجد "العم سعيد"، أي العامل الذي كان عندنا في القسم، وأردف قائلاً:we have been paid to do this job بمعنى أنهم مدفوع لهم للقيام بالعمل بذواتهم و الاعتماد على أنفسهم.
وفي عطلة الأسبوع دعانا لتناول وجبة الغداء عنده في بيته، باعتباري صديق للعائلة، أذكر كان اليوم يوم الأحد، بعض الأوربيين يتناولون لحم الديك الرومي المشوي roasted في هذا اليوم وهي من الوجبات التقليدية عندهم يحرصون على تناولها بمعية العائلة، الديك الرومي أو "التركي" مع البطاطس المهروسة والخضار المطبوخة بالبخار، وبعد انتهائنا من الطعام وأتمامنا الوجبة حسب تقاليدهم، أخذنا إلى غرفة مجاورة على مدخل البيت لرؤية مقتنياته وكانت معظمها من الشرق الأوسط، والشرق الأقصى و الطابع العماني أو الخليجي كان الغالب عليها، من قدور فخارية، وأواني وفضيات وسيوف وخناجر وملابس بالإضافة إلى معدات الركاب للنوق والخيول.
وفي حادثة أخرى مغايرة عن التي سبقت، ربما منذ ثلاث أو أربع سنوات اي في عام 2013 لا أتذكر تماما، ركبت حافلة النقل الوطني من منطقة السفالة بإبراء قاصداً مسقط، و في منطقة العلاية،
أي على بعد 3 كيلو مترات أوقف الحافلة راكب عربي يود الركوب معنا إلى مسقط، وعند مدخل الحافلة أخذ يجادل سائق الحافلة في التسعيرة، بين أخذ ورد بينه وبين السائق، وطال الجدال إلى أن بدأ الركاب يتذمرون، وأخذ هذا الأخ يفهم السائق عن وظيفته ولقبه الأكاديمي الخ... ولما رأيت بأن جدالهما "لا ناقة لنا فيه ولا جمل"، إلا في تسببه ذلك التأخير الذي لم يكن له معنى، همست في أذن السائق وكنت جالسا ً خلفه بأن يتوكل وسأدفع أنا الفرق مبلغ الـ 200 بيسة التي يجادل أخانا بشأنها.
ربما سمع هذا الأخ الهمس، وقبل بدفع المبلغ، ودعوته للجلوس على المقعد الذي بجانبي، فأخذ يفش غيظه ويحكي لي قصة حياته، عن دراسته الأكاديمية، ومركزه الاجتماعي وعن عائلته وأنه مهندس و كان ضابطاً في جيش بلاده، ويعمل استشاري طرق في الشركة المنفذة "طريق بدبد إبراء" و و و..الخ... سألته كم له من المدة في عمان قال لي: ثلاثة أشهر، وفهمت السبب بأن لديه نفس المرض النفسي الشائع والمتفشي في الوطن العربي من أيام الحكم العثماني وهو التفاخر بالشهادات والمكانة الاجتماعية، فقلت له يا صديقي: (زمان البشوات، ولى بدون رجعة، دراستك لك، ومكانتك عند أهلك هذا شيء يخصك و ما يهم الناس هو أخلاقك، وما تقدمه لهم من خير)، كلنا مهندسون وخدمنا في القوات المسلحة، فهدأ السائق الذي جادلته هو مجرد موظف لا يملك الصلاحيات في خفض التسعيرة، كما لعلمك هو مدرس يعمل بوزارة التربية والتعليم و يعمل في هذه المهنة بصفة مؤقتة عبارة وقت إضافي لزيادة دخله. في العطلة الصفية، هذا لأني أعرفه تماماً من ولاية مجاورة، وزبوناً عندي في المكتبة)، فهدأ الرجل.
سمع الحديث ، الذي دار بيننا من بني جنسه دكتور يعمل لدى وزارة الصحة كان في المقعد الخلفي من ناحية اليمين فناداه ليجلس عنده، وأخذ يفهمه بقوله: (هنا في عمان لا تستطيع أن تميز بين المتعلم وغير المتعلم أو من ذوي المناصب العليا الناس هنا في عمان متساوون لا يتنادون بالألقاب الأكاديمية أو الوظيفية كالحال في بلادنا).
وعندما توقفت الحافلة في محطة برج الصحوة، أخرجت مصحفي من حقيبة اليد وأهديته إياه، تعانقننا واستسمحنا بعض ثم نزلت عنه في المحطة.
ذلك هو الفرق في وجهات النظر بيننا وبين الغرب matter of opinion وكيف ننظر للأمور.
- عبد الله السناوي - شارك
-