1. ذكريات 30-2(د)

      رحلة العمل -4

      التحاقنا بالعمل

      عندما التحقت بشركة الاتصالات أنا وزملائي في أغسطس من عام 1975م وجدنا شركة الاتصالات آنذاك تعج إدارتها بالعمالة الوافدة، وتدار كلياً من قبل أجانب من الأوروبيين والأسيويين، حيث كان الأوروبيون يحتلون المراتب العليا في الإدارة والأسيويون في المراتب المتوسطة والعمانيون في المراتب الدنيا عدا العدد القليل جداً منهم من الذين يتقنون اللغة الانجليزية وهم الذين كانوا يقيمون في أفريقيا حيث عينوا في الإدارة المتوسطة.

       

      الغالبية العظمى من المواطنين كانوا يعملون عمالاً غير مهرة ومعاونين أو سائقي سيارات في الشركة، ولكي أكون دقيقاً يوجد ثلاثة أو أربعة من العمانيين ممن ذكرتهم ممن درسوا في بريطانيا أو روسيا وبعض الدول العربية وقد عين هؤلاء في وظائف نواب مدراء أو رؤساء أقسام كمساعدين للأجانب دون أن تكون لديهم أي سلطة إدارية وهم فئة قليلة جداً قد لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، ربما قد يكون ذلك التوظيف ـ والله أعلم ـ جزءاً من اتفاق مسبق بين شركة (C & W) والحكومة لتوظيف عدد من العمانيين في إدارة الشركة الجديدة.

       

      عندما تسلمت تلك الأخيرة الإدارة وأصبحت فيما بعد شركة عمانية مساهمة مقفلة تمتلك الحكومة من حصتها الجزء الأكبر من رأس مالها. للأسف بالرغم من أن الشركة أصبحت عمانية لكن ليس هناك وجود للغة العربية في تعاملاتها أو في مراسلاتها الداخلية فقد كان كل شيء يتم باللغة الانجليزية تحدثاً وكتابةً وظل ذلك التوجه سائداً حتى بداية التسعينات إلى أن طبقت سياسة ازدواجية اللغة.

       

      بعد التحاقنا بالشركة وجدنا إن إدارتها قد انتقلت من المبنى القديم بمسقط (كان يقع أمام قصر العلم من جهة اليسار) إلى المبنى الجديد بروي حيث كان يعرف عند الشركة الأجنبية "ماركوري هوس" وهو المبنى الرئيسي لإدارة الشركة وما زالت احتفظ بصورة للسلطان سعيد بن تيمور عندما زارهم في الخمسينات في هذا المبنى ولا أعرف بدقة تاريخها لكن الصورة من ضمن مجموعة صور أهديت لي من قبل أحد زملائي الهنود يدعى "ماسكروناس" من بلدة (Goa) بجمهورية الهند ويحق أن يذكر فضله حتى لا يغمط حقه.

      التعيينات:

      كانت دفعتنا أول دفعة فنية يتم تعيينها في الشركة الجديدة و أبتعثت للدراسة بالخارج على نفقة الحكومة، هناك دفعة سبقتنا مبتعثة من قبل (C & W) لكن كان عددها أقل من دفعتنا، دفعتنا كانت هي الأكبر عدداً؛ لأنها شملت معظم التخصصات: (خطوط المشتركين، الكابلات، المقاسم، الإرسال الراديوي، التلكس والتلغراف).

       

      توالت التعيينات في الشركة من العمالة الأسيوية ومن العمانيين على حد سواء، وبعد انفتاح السلطنة على العالم وتوافد الأجانب إلى عمان واتساع رقعة استخدام وسائل الاتصال؛ دعت الحاجة إلى تعيين عدد كبير من العمانيات للهاتف اليدوي (manual telephone switchboard) ممن لديهن إلمام بسيط باللغة الإنجليزية وذلك في وظائف عاملات بدالة هاتف(Telephone operators) لتوصيل المكالمات الخارجية، كما تم تعيين الشباب ممن لديهم إلمام متوسط باللغة الانجليزية في وظائف موظفي تلغراف (Telegraph operators) بغرض تشغيل خدمة التلكس اليدوي وخدمة تلغراف العموم (public telegram). أما ممن لا يجيدون اللغة الانجليزية ولديهم إلمام باللغة العربية بما دون المتوسط كأولئك الذين كانوا في دول الخليج أومن سكان عمان الداخل فقد عينوا كمعاونين للأجانب الذين استوظفوا لإصلاح خطوط المشتركين (line men) أو كسائقين في الشركة.

       

      كان نظام التوظيف ـفي الفترة التي كان في الإدارة أجانب ـ يجري وفق نظام ومعايير معينة ومتخصصة ومخطط لها مسبقاً، ولكن للأسف بعد رحيلهم وبعد منتصف الثمانينات أصبح معظم التعيينات التي كانت تتم يغلب عليها طابع الواسطة (المحسوبية) ودون ضوابط، فكان من أنهي دراسة الثانوية العامة ولم يجد كلية تستقبله أو من لديه شهادة دون الثانوية العامة أولديه شهادة طباعة على الآلة الكاتبة بحث له عن (واسطة) كوسيط ليوظفه في الشركة ولم يكن نظام التوظيف في الشركة في ذلك الوقت مرتبطاً أو خاضعاً خضوعاً كلياً لنظام الخدمة المدنية، ربما كان خاضعاً ـ والله أعلم ـ ولكن لا يطبق.

       

      كما كان لقلة عدد توفر الكليات في ذلك الوقت أو عدم قدرتها على استيعاب العدد الكبير من خريجي الشهادة العامة جعل الناس يبحثون عن مخرج أما للتوظيف أو التوظيف ومواصلة التعليم في آن واحد خاصة عندما بدأت الكليات الخاصة في الظهور وكان الانتساب إلى تلك الكليات باهظ الكلفة وفوق استطاعة معظم أولياء الأمور، واستمر الوضع هكذا إلى أن أوجدت الحكومة الحل بعد عام 2000م عندما أدخل نظام القبول الموحد في وزارة التعليم العالي، ونظام التوظيف الالكتروني في إدارة العمل.

       

      أدى نظام التوظيف العشوائي في الشركة إلى تكدس وظيفي أو بما يعرف بالفائض في عدد الموظفين (surplus) وظل بعض الأقسام في الشركة ـ والتي أحيل إليها أولئك الموظفون لتشغيلهم ـ نعاني من ذلك التكدس الوظيفي، و بالتالي أصبح نظرياً في السجلات وجود فائض في العدد، بينما ومن الناحية العملية كان هناك قصور ونقص في العدد والسبب أن هؤلاء الموظفين الذين تمت أحالتهم إليها هم في الواقع عمالة زائدة (redundant) لا يستفاد من وجودهم (لأنهم غير مؤهلين لأي مهنة)، فعلى سبيل المثال: (هناك موظف لا يمكن إسناد أي عمل مهني له لأنه غير مؤهل أكاديمياً ولا مهنياً) فهولا يعرف أي شيء عن أساسيات ومبادئ أي مهنة، كل ما يملكه هو شهادة الثانوية العامة أو الإعدادية.

       

      لقد تم تعيين مثل ذلك النوع في أقسام فنية من دون تدريب معين ودون إيجاد و خلق برنامج أو خطة تدريبية واضحة لهم. هكذا معظم من وظف وسبل في الأقسام ترك أمره للقسم الذي تعين فيه أي (التدريب على رأس العمل). لكن كيف للقسم أن يدربه وهولا يفهم حتى أبسط أساسيات المهنة التي عين من أجلها؟

       

      ظل أولئك الشباب المعينون يجوبون في الممرات يتبادلون السوالف والدردشة ونقل الأخبار؛ مما شكل خطراً على أسرار العمل داخل الشركة، و كان منهم ممن يتردد على مكاتب الإدارة طالباً منحه الفرصة للدراسة فكثرت الشكاوي والأقاويل والتذمر. إذ لم تعد الأقسام تستفيد من وجودهم لأنهم ليسوا سوى متفرجين(spectators).

       

      الشيء الآخر هو أنه لم تكن هناك رؤية واضحة ولا مشروع محدد. قد خطط لهذا التوظيف فقط كان مجرد استيعاب لهؤلاء الموظفين فتسبب ذلك التوظيف العشوائي لاحقاً إلى اضطراب وتخلخل في نظام الترقيات والتدريب؛ فتجد فني متخصص و منتج (وفق النظام القديم للشركة) أن راتبه يوازي راتب ممن استوظف حديثاً بالثانوية العامة (وهو غير ممتهن لأي مهنة) والسبب أن راتب هذا الأخير أعلى لأنه يتبع لنظام الخدمة المدنية (الدرجة الرابعة) بينما ذاك الموظف يتبع النظام القديم للشركة الذي استوظف به.والفرق كبير بين الاثنين في الخبرة المهنية وعدد سنين العمل،علاوة على ذلك أن الأخير غير محترف وغير منتج.

       

      في رأيي أن سبب ذلك هو انعدام التخطيط السليم في إدارة الموارد البشرية(Human Resource Management) وأنا أقول هذا من وجهة نظري الخاصة دون أن ألوم أحد، أرجو ألا يؤخذ ذلك عليّ.

      عولج الخطأ بالخطأ:

      فعندما توفرت موازنة التدريب لم تعط الفرصة للموظفين القدامى لصقل مهاراتهم العملية أو تحفيزهم لزيادة إنتاجهم العملي. بمعنى أدق لم توزع الموازنة بشكل عادل حتى ينال الكل نصيبه وحقه من التدريب، بل خصصت بالكامل لأناس مختارين ممن استوظفوا حديثاً من حملة شهادة الثانوية العامة والذين سرحوا في الأقسام وأعطيت الأولوية للدراسة لأبناء وأقارب موظفي الواسطة في الشركة من كبار الموظفين وصغارهم بينما أهمل الباقي أو غُض الطرف عن تدريبهم أوربما حدث ذلك بسبب استهلاك ونفاد الموازنة.

       

      كان في النظام السابق ـ قبل منتصف الثمانينات ـ موازنة للتدريب لا تخصص إلا للتدريب المهني وفي مجال العمل فقط لا للتعليم الأكاديمي لأن موازنة التدريب تأتي ضمن تكلفة المشروع الذي تم أو يتم تنفيذه. على سبيل المثال المقاسم، الشبكات أو التدريب الإداري.كانت تخصص نسبة معينة من التكلفة لتطوير الموظفين القائمين على الخدمة التي وفرها أو سيوفرها ذلك المشروع.

       

      لكن حسب اعتقادي صار العكس حيث استخدمت الموازنة للتعليم الأكاديمي، وأعطيت الأولوية لموظفي الواسطة من أبناء وأقارب موظفي الشركة، وبعد تخرجهم تم تعيينهم مدراء ورؤساء أقسام من دون سابق خبرة عملية، حتى أن من بينهم من أصبح رئيساً لمن كان يرأسه، فكأنَّ الوظيفة كانت في انتظاره أو فُصِّلَتْ لأجله.هذا الواقع الجديد واضح جلياً ولا يخفى على المتتبع للهيكل التنظيمي السابق وأنا أقولها دون افتراء.

       

      لقد تسبب ذلك في خلق كراهية وحساسية لدى بعض الموظفين وربما كان ذلك شيئاً غير مقصود ولكن للأسف لم ينتبه له أحد من الإداريين.

       

      هكذا أُهمِل الموظف القديم، ومن كان حاله ميسوراً منهم صرف لنفسه وأنتسب إلى مؤسسات تعليمية عالمية التي عايرت مؤهله وقبلت انتسابه. حينما أقر فيما بعد إعطاء الفرصة للبعض لمواصلة الدراسة بنظام الـ (part-time) (غير متفرغ) في الكليات المحلية كإجراء تعويضي (compensation) وذلك حسب توصية الشركة التي قامت بالتدقيق للخصخصة والتي أوصت أيضاً بتخفيض عدد الموظفين، أو إعادة توزيعهم وتوظيفهم في وظائف أخرى مع إعادة التأهيل (relocating) لكن للأسف اتخذت الإدارة إجراءً بأن أعدت قائمة طويلة لتسريحهم بنظام التقاعد الإجباري تحت بند الخصخصة ملقية الحمل على صندوق التقاعد الحكومي.

       

      للأسف لم تستغل سياسة التحفيز والاستفادة من إمكانية الموظف،أو تعطى الفرصة لا بالنظام القديم السائد في عهد شركة (C & W) ولا بنظام الخدمة المدنية، وكلما تقدم الموظف القديم بطلب للدراسة، اختلقت له الأعذار والحجج العديدة منها أن جهة عمله لا تستغني عنه وأن غيابه قد يعطل الخدمة أو عدم توفر البديل الذي سيحل محله أثناء غيابه.

      أخذت السنون تمضي والموظف تائه في عراقيل إدارية لا حيلة له فيها فقد أدى ذلك الإهمال ألإداري ربما غير المقصود إلى استياء الموظف وانخفاض إنتاجه فصار محبطاً وساد معه عدم الرضا و لدى جميع الموظفين القدامى مما أدى إلى انحدار في جودة الخدمة بسب سوء تصرف الإدارة.

       

      كما رأينا كيف استغل من استطاع في الشركة مساعدة أقاربه واستغلال نظام البعثات بتقديم أقاربه "مما زاد الطين بلة" فكان من يوظف في الشركة بالواسطة لم يكن من أجل العمل بل كان للحصول على فرصة لتكملة دراسته بحجة عدم توفر الكليات وأصبح هذا النوع من التوظيف يعرف لدى بعض الموظفين المستائين بتوظيف ألـ (transit) أي الموظف العابر من اجل الدراسة لا للعمل. وكأنَّ الشركة كانت تقوم بدور الوزارات المعنية بالتعليم.لقد أُسِيء استخدام موازنة التدريب فبدلاً من أن توجه إلى تنمية مهارة الموظفين وجهت لشيء آخر خارج اختصاصها.

       

      أرى نفسي محرجاً عند الكتابة عن هذا الجزء في مذكراتي، ولكني كمدون لا استطيع أن أتجاوزه والانتقال إلى مواضيع أخرى، فاختصرت الكثير منه حتى لا أضع نفسي في موقف محرج لا أحسد عليه، ولا أريد أن أسبب الضيق لأحد ولكن بعض الحقائق للأمانة لا يمكن إخفاؤها.

       

      دونت الكثير وبإسهاب في مذكراتي هذا الموضوع؛ لأنه كان أساس المشكلات التي كادت تضر بالخدمة فتحول الموظف من منتج إلى موظف مستاء، فعولج الخطأ بالخطأ حينما اتخذ قرار تعسفي بالإحالة إلى التقاعد الإجباري لعدد كبير من الموظفين القدامى (حوالي مائتين موظف من مدير عام، مدير، رئيس قسم، فني، عامل، الخ...) وذلك بحجة الخصخصة حيث تم ذلك من دون تمهيد أو حتى تكريم بإقامة حفلة بسيطة تقدم فيها حتى ولو القليل من البسكويت لأولئك الذين أفنوا زهرة شبابهم فخرجوا حانقين، بينما رفعت رواتب الآخرين. لقد نُسِيتْ انجازاتهم حتى كأنهم لم يعملوا شيئاً أو بالأحرى مسحت جميع أعمالهم التي شاركوا بها في قيام الشركة و وقوفها على أقدامها.

       

      هذا التهميش جعلهم يشعرون بالغبن و مدى جحود الآخرين وتنكرهم لحقوقهم المعنوية والمادية الشيء الذي دعاهم إلى رفع دعوى في المحاكم ضد الشركة "بالفصل التعسفي" وذلك بعد أن رفض تظلمهم لاستعادة واثبات حقوقهم. لم يكن ذلك الإجراء فقط بسبب إحالتهم إلى التقاعد بل لأنهم أحسوا بالظلم بما صرف لهم من مخصصات كانت أقل بكثير مما كانوا يستحقونه.

       

      هكذا رأينا كيف تسبب توظيف موظفين حديثي التخرج في مناصب إدارية عليا دون خبرة أو تدرج في العمل إلى كثير من الاستياء لدى القدامى، وكأنَّ المناصب كانت في انتظارهم مسبقاً. ما كان هناك من داعٍ لهذا التسرع و دون سابق تمهيد.على كل حال، لقد انقضى كل شيء"مات واندفن"وقد استوفيت بعض الحقوق عبر المحاكم،ولكن نبقى نقول حتى لو طاب الجرح إلا أن أثاره تبقى كالوسم ولا أحد كان ممن خرجوا يتمنى تنتهي حياته العملية بنهاية غير سعيدة.

       

      مهما يكن، ففي عصرنا الحاضر وهو قطعاً ليس كالسابق الذي يُحتاج فيه إلى خبرة، كلنا نعلم بأن التكنولوجيا الحديثة يسرت كل شيء في التشغيل والصيانة حيث يتحكم كيان مرن(software) والقطع العاطلة تستبدل وترمى وفق توصيات وبرامج معدة من قبل الشركات المصنعة، لا يتدخل الإنسان إلا في الشيء القليل ربما عند التبديل أو التركيب فقط هما اللذان يتطلبان التدخل البشري.

       

      لا أود أن أتسبب في الشعور بالضيق لأحد بالتطرق إلى أكثر من ذلك مما كتبته يعبر عن وجهة نظري الخاصة، ربما قد يكون ناتجاً عن استياء لأني كنت أحد المتضررين من جملة ألمائتي شخص من الذين أحيلوا إلى التقاعد دفعة واحدة في عام 2003م والحمد الله فقد استوفى كل واحد حقه بعد التردد لعشر سنوات في أروقة المحاكم، فالإنسان لا يخاف من ضياع حقه طالما هناك عدالة.

       

      عام 2011م صحح كثير من المسارات والأوضاع التي كانت مبهمة وهذا بحد ذاته يعتبر انجازاً للحكومة. وتبقى المسألة مسألة دروس يستفاد منها في الإدارة (study cases) من قبل الباحثين وأيضاً القانونيين في مجال المحاماة. حيث كانت هناك أيضاً أمور ما كانت لتتم لولا صدور المرسوم السلطاني ببعض التعديلات أو الاختصاصات. من وجهة نظري أقول بأن هناك كثير منها إدارية ناجمة ربما عن سهو أو جهل فلو انتبه إليها من البداية لجنبت الشركة كثيراً من المصروفات غير المبررة و غير الضرورية.

       

      1. عبد الله السناوي - شارك